القاهرة (عربي times)
يقول أبو حامد الغزالي في كتابه الشهير “إحياء علوم الدين”: “المُلك والدين توأمان. فالدين أصل والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم وما لا حارس له فضائع…”. تشير تلك العبارة إلى العلاقة الوثيقة بين الديني والسياسي في التاريخ الإسلامي. لطالما استعان السلطان بالفقيه ليشركه معه في قضايا الدولة والحكم. وبالمقابل، لطالما عبّرت الفتاوى الدينية التي أصدرها الشيوخ والعلماء عن الإرادة السياسية للدول وأصحاب السلطة. لكن هذا لم يمنع من وجود محطات صراع بين الطرفين وجد السلطان والفقيه نفسيهما على طرفي نقيض.
يلقي هذا المقال الضوء على مجموعة من أبرز الفتاوى المشهورة في الأوساط الإسلامية، والتي كانت لها انعكاسات كبيرة على المستويين الديني والسياسي.
- إجازة قتل الإخوة للحفاظ على العرش
لجأ السلاطين العثمانيون في الكثير من الأحيان للعنف بغية التخلص من منافسيهم. تمت شرعنة هذا العنف من خلال بعض القوانين والفتاوى الدينية. على سبيل المثال، يذكر المؤرخ التركي المعاصر خليل إينالجيك، في كتابه “تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار”، أن السلطان محمد الفاتح أكد صراحة على حق السلطان الجديد في التخلص من أعدائه المحتملين، حتى ولو كانوا من إخوته. نص الفاتح على ذلك في القوانين التي أصدرها تحت اسم “قانون نامة”. ورد في تلك المجموعة: “وأيّ شخصٍ يتولّى السُّلطة من أولادي فمن المناسب أن يقتل الإخوة من أجل نظام العالم”.
ظهر الرأي الفقهي المؤيد للاغتيال السياسي الذي مارسه العثمانيون بهدف الحفاظ على السلطة في ما ذكره الفقيه الحنبلي مرعي بن يوسف الكرمي في كتابه المشهور “قلائد العقيان في فضائل آل عثمان”. يقول الكرمي: “ومن فضائل آل عثمان قتل أولادهم الذكور خوفاً من الفتن، وفساد ملكهم واختلاف الكلمة وشق العصا بين المسلمين، وهذا الأمر لم يسبقهم إليه أحد فيما أعلم. وهو وإنْ كان أمراً ينفر منه الطبع السليم بحسب الظاهر، لكنه في نفس الأمر خير كبير ونفع كثير”. أيد الكرمي فتواه بآراء مجموعة من الفقهاء والعلماء الذين أجازوا للسلاطين العثمانيين القتل والاغتيال في سبيل الحفاظ على السلطة. أكد الكرمي أن هؤلاء الفقهاء اعتمدوا على الفتوى المنسوبة للإمام مالك بن أنس والتي نصت على أنه يجوز للإمام أن يقتل ثلث الأمة لإصلاح حال ثلثيها!.
- فتوى الشيرازي وثورة التبغ
انتقل المرجع الشيعي الإيراني محمد حسن الشيرازي -المعروف بالميرزا الشيرازي- إلى العراق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي. أصدر الشيرازي من موطنه الجديد في مدينة سامراء فتوى مشهورة ارتبطت بما عُرف باسم انتفاضة التنباك أو ثورة التبغ.
اتفق الشاه الإيراني ناصر الدين القاجاري مع بريطانيا على أن يمنحها امتياز حرية التصرف في التبغ الإيراني سواء كان ذلك داخل البلاد أو خارجها. قوبل هذا الاتفاق بمعارضة شديدة من قِبل الشيرازي باعتباره شرعنة للهيمنة البريطانية على الأراضي الفارسية. أرسل الميرزا إلى الشاه القاجاري معترضاً على تلك الاتفاقية، ولكن الشاه لم يلتفت إلى الرسائل المتكررة من المرجع الديني. قام عندها الشيرازي بإصدار فتوى نصها “إن استعمال التنباك والتتن حرام بأي نحو كان، ومن استعمله كان كمن حارب الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف… إذا لم يلغ امتياز التنباك بشكل كامل، سوف أعلن الجهاد خلال ثمان وأربعين ساعة”.
شاع خبر تلك الفتاوى في عموم المدن الإيرانية. ولاقت تجاوباً من الأغلبية. وقام الكثير من الإيرانيين بترك التدخين وكُسرت نرجيلات وآلات التدخين في إيران. وقيل إن الخدم العاملين في القصر الشاهنشاهي كسروا نرجيلة الشاه نفسه. اضطر الشاه في نهاية الأمر إلى فسخ تعاقده مع الشركة الإنجليزية ودفع مبلغاً ماليا ًكبيراً كشرط جزائي بالمقابل.
- فتوى هدر دم سلمان رشدي
صدرت في سنة 1988م رواية آيات شيطانية للكاتب البريطاني سلمان رشدي. أثارت الرواية ردود أفعال غاضبة واسعة النطاق. بعث متشددون برسائل تهديد للمؤلف ولدار النشر التي أصدرت الرواية. ومُنع الكتاب من التداول في أغلبية الدول الإسلامية، كما خرجت عشرات المظاهرات للتنديد به في كل من الهند، وباكستان، وبنجلاديش، وإيران، والسودان، وغيرها. وأُحرق عدد كبير من نسخ الرواية في إنجلترا من قِبل المسلمين المحتجين.
لكن أشهر ردود الأفعال الغاضبة تظل الفتوى الصادرة عن رجل الدين آية الله الخميني، المرشد الأعلى للجمهورية في إيران. أهدر الخميني دم سلمان رشدي بصفته مرتداً، وقال في فتواه: “إنني أبلغ جميع المسلمين في العالم بأن مؤلف الكتاب المعنون “الآيات الشيطانية” الذي ألف وطبع ونشر ضد الإسلام والنبي والقرآن، وكذلك ناشري الكتاب الواعين بمحتوياته قد حكموا بالموت، وعلى جميع المسلمين تنفيذ ذلك أينما وجدوهم؛ كي لا يجرؤ أحد بعد ذلك على إهانة الإسلام، ومن يُقتل في هذا الطريق فهو شهيد”.
تعرض رشدي للعديد من محاولات الاغتيال بسبب تلك الفتوى. كانت آخر تلك المحاولات تلك التي وقعت في الثاني عشر من أغسطس الماضي، حيث تعرض الكاتب البريطاني للطعن في عنقه من قبل متطرف أثناء استعداده لإلقاء محاضرة في قاعة بولاية نيويورك الأميركية.
- فتوى الجهاد الكفائي
نجحت قوات تنظيم داعش في اجتياح مدينة الموصل في يونيو 2014. انهار الجيش العراقي سريعا، وبدا وكأن البلاد على مشارف كارثة غير مسبوقة. في هذا السياق، أصدر المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني فتواه المعروفة بـ”فتوى الجهاد الكفائي”.
جاء في الفتوى: “إن طبيعة المخاطر المحدقة بالعراق وشعبه في الوقت الحاضر تقتضي الدفاع عن هذا الوطن وأهله وأعراض مواطنيه. وهذا الدفاع واجب على المواطنين بالوجوب الكفائي، بمعنى أنه إذا تصدى له مَن بهم الكفاية بحيث يتحقق الغرض وهو حفظ العراق وشعبه ومقدساته يسقط عن الباقين. ومن هنا، فإنه على المواطنين الذين يتمكنون من حمل السلاح ومقاتلة الإرهابيين دفاعاً عن بلدهم وشعبهم ومقدساتهم التطوع للانخراط في القوات الأمنية لتحقيق هذا الغرض المقدس”.
تفاعل العراقيون بشكل إيجابي مع تلك الفتوى. وانخرط الآلاف منهم في الفصائل والقوات العسكرية المختلفة والتي عُرفت باسم الحشد الشعبي. دخلت تلك القوات في معارك متلاحقة ضد عناصر تنظيم داعش. في ديسمبر سنة 2017، أعلنت الحكومة العراقية تحرير الموصل.
- فتوى جواز دخول الجيش الأميركي لجزيرة العرب
مثل نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين خطراً داهماً على الحكومات الخليجية. اجتاح الجيش العراقي الكويت سنة 1990، ووجدت الدول الأخرى وعلى رأسها السعودية نفسها مهددة. ردت المملكة بإعلان الاستعانة بالجيش الأميركي لطرد صدام من الكويت. هنا، ظهر سؤال بالغ الحساسية: هل يمكن للجيوش الأمريكية -غير المسلمة- أن تدخل شبه الجزيرة العربية؟ ألم ينه النبي عن ذلك بشكل واضح عن دخول غير المسلمين إلى جزيرة العرب؟
عمل الفقهاء السعوديون على إيجاد تخريج مناسب للمأزق الفقهي. على سبيل المثال، أفتى المفتي العام للمملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز بجواز الاستعانة بالجيش الأميركي، قال ابن باز موضحاً: “… إن الدولة في هذه الحالة قد اضطرت إلى أن تستعين ببعض الدول الكافرة على هذا الظالم الغاشم؛ لأن خطره كبير، ولأن له أعوانًا آخرين لو انتصر لظهروا وعظم شرهم. فلهذا، رأت الحكومة السعودية وبقية دول الخليج أنه لا بد من دول قوية تقابل هذا العدو الملحد الظالم، وتعين على صده وكف شره وإزالة ظلمه”.
تابع ابن باز في فتواه “…هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية لما تأملوا هذا ونظروا فيه وعرفوا الحال بينوا أن هذا أمر سائغ، وأن الواجب استعمال ما يدفع الضرر، ولا يجوز التأخر في ذلك، بل يجب فورًا استعمال ما يدفع الضرر عن المسلمين ولو بالاستعانة بطائفة من المشركين فيما يتعلق بصد العدوان وإزالة الظلم. وهم جاءوا لذلك، وما جاءوا ليستحلوا البلاد، ولا ليأخذوها، بل جاءوا لصد العدوان وإزالة الظلم ثم يرجعون إلى بلادهم، وهم الآن يتحرون المواضع التي يستعين بها العدو، وما يتعمدون قتل الأبرياء ولا قتل المدنيين، وإنما يريدون قتل الظالمين المعتدين وإفساد مخططهم والقضاء على سبل إمدادهم وقوتهم في الحرب”.
- فتوى إجازة القتال مع الولايات المتحدة
في سبتمبر 2001، وقعت هجمات برجي مركز التجارة العالمي الشهيرة في نيويورك. على إثر تلك الهجمات الدامية، شنت الولايات المتحدة حربا شرسة ضد حكومة طالبان وتنظيم القاعدة، المسؤول عن الهجوم، في أفغانستان. وطرحت الكثير من التساؤلات حول موقف المسلمين الذين يخدمون في الجيش الأميركي من تلك الحرب. هل يجوز لهم الاشتراك فيها؟ هل يمكن لهم أن يقاتلوا المسلمين الذين يعيشون في أفغانستان؟
عُرض هذا السؤال على الفقيه المصري يوسف القرضاوي. أفتى وقتها مجيزاً مشاركة مسلمي الجيش الأميركي في تلك الحرب. ورد نص تلك الفتوى في جريدة الشرق الأوسط في 14 أكتوبر 2001م. قال القرضاوي شارحاً وجهة نظره: “…لا بأس إن شاء الله على العسكريين المسلمين من المشاركة في القتال في المعارك المتوقعة ضد من “يظنّ” أنهم يمارسون الإرهاب أو يؤوون الممارسين له ويتيحون لهم فرص التدريب والانطلاق من بلادهم مع استصحاب النية الصحيحة على النحو الذي أوضحناه دفعاً لأي شبهة قد تلحق بهم في ولائهم لأوطانهم، ومنعاً للضرر الغالب على الظن وقوعه، وإعمالاً للقواعد الشرعية التي تنص على أن الضرورات تبيح المحظورات وتوجب تحمل الضرر الأخف لدفع الضرر الأشدّ، والله تعالى أعلم وأحكم”.
بُنيت فتوى القرضاوي على مبدأ المواطنة، واعتبرت أن المسلمين الذين يعيشون في المجتمعات الغربية جزءاً لا يتجزأ من تلك المجتمعات. في المقابل، رفض الكثير من رجال الدين تلك الفتوى وهاجموها بشدة باعتبارها شرعنة لاشتراك المسلمين الأميركيين في قتال مسلمين آخرين.
- إجازة تصفية الإخوان المسلمين
سقط حكم الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي في الثالث من يوليو سنة 2013. زُج بعناصر جماعة الإخوان المسلمين في السجون. وشهدت مصر سلسلة من أحداث العنف التي لم تتوقف على مدار عدة سنوات. في هذا السياق، أفتى بعض رجال الدين المؤيدين للسلطة الجديدة بإباحة اللجوء للقوة ضد عناصر جماعة الإخوان المسلمين لكونها “جماعة إرهابية تخريبية” تستهدف إسقاط الدولة المصرية.
كانت فتوى مفتي مصر الأسبق علي جمعة من أشهر تلك الفتاوى على الإطلاق. أفتى جمعة في أحد المؤتمرات التي حضرها العشرات من القيادات العسكرية بجواز قتل عناصر الجماعة. شبههم في فتواه بالخوارج ووصفهم بكلاب أهل النار. وتابع قائلاً: “اضرب في المليان، إياك أن تضحي بأفرادك وجنودك من أجل هؤلاء… طوبي لمن قتلهم، وقتلوه… كان يجب أن نطهر مدينتنا من هؤلاء الأوباش… يجب أن نتبرأ منهم براءة الذئب من دم ابن يعقوب”. انتقد الكثيرون كلام علي جمعة، واعتبروا على خطأ تلك الفتوى وأنها صدرت لأهداف سياسية، دون مراعاة لأحكام الشريعة.
Comments are closed.