رسام أعمى يعتمد على الذاكرة لرسم لوحاته

لندن (عربي times)

في المعرض الذي استضافته قاعة المدرسة الملكية للرسم “رويال دروينغ سكول” في لندن، للرسام البريطاني الراحل سارغي مان، تجد نفسك في فضاء حميم يشع بالألوان ويفيض ببهجة الضوء، لكنك لن تصدق أن من يقف وراء هذا الإبداع يعيش في ظلام مطبق ولا يرى غير العتمة بعد أن فقد بصره.

لقد نجح مان في أن يستبدل البصر بالبصيرة، ويبدد العتمة التي نزلت على عينيه باستعادة أشكال من أحبهم من ذاكرته وسط مناظر طافحة بالحميمية والألفة العائلية والألوان المبهجة، نقلها عبر تلك الحساسية المفرطة للجمال في الطبيعة التي ميزت أعماله.

لقد زحفت العتمة تدريجيا على عالم مان بعد مرض أَلمَ بعينيه في الثلاثينيات من عمره، حتى أطبقت عليه كليا ليفقد بصره نهائيا في السنوات الخمس الأخيرة من عمره (توفي في عام 2015)، وقد كرس هذا المعرض للوحاته التي رسمها في هذه السنوات فقط أي في مرحلة العمى التام.

وعلى العكس من الظلام الذي يطبق على عيني مان، نرى في لوحات المعرض فيضا من الضوء يشع من نوافذ أو أبواب لينير غرفا وفضاءات هندسية محددة تحتشد بشخصيات من عائلته وأصدقائه رسمهم بحميمية واضحة وسط كرنفال لوني مشع.

الرسم باللمس

عُرف مان، المولود عام 1937، برسم المناظر الطبيعية والبروتريه أحيانا، وقد أقام معرضه الشخصي الأول في لندن عام 1963، كما عمل مدرسا للرسم بعد تخرجه من كلية كامبرويل للفنون مطلع الستينيات مركزاً في دروسه لطلبته وبحثه الجمالي على دراسة القوة التحويلية للضوء واللون والعلاقة بينهما.

بدأت مشكلة الإبصار مع مان وهو في أوج عطائه في عام 1973، عندما أصيب بالسّاد (الماء الأبيض أو إعتام عدسة العين) أعقبته إصابته بانفصال الشبكية في كلتا عينيه، الأمر الذي انتهى بفقدانه القدرة على الإبصار نهائيا.

خلال فقدان البصر التدريجي، حرص مان على مواصلة الرسم بتطوير تقنيات تساعده في عمله، كتحوير عدسات تيلسكوب تساعده في تكبير الصور، حتى انتهى بعد عماه إلى الاعتماد على حاسة اللمس واستخدام عجينة لاصقة وأربطة مطاطية لتحديد حدود الأشكال التي يريد رسمها على قماشة اللوحة.

ولعل الراصد لمجمل نتاج مان في مختلف مراحله سيكتشف أنها تعكس بوضوح هذا الصراع مع فقدان البصر التدريجي، وقدرته على استثمار ما يتعرض له في سياق بحثه الفني والجمالي بدءاً من الغشاوة التي بدأ يرى فيها الألوان، حيث بدأ دماغه يراها تصطبغ باللون الأزرق، ومرورا بتجربة أن يرى الأشياء مزدوجة في أحدى عينيه ومفردة في الأخرى وانتهاء بظلام فقدان البصر التام.

وطور مان، في تحديه لمحنته تلك، استراتيجية لمواصلة إبداعه الفني لم تتوقف عند تلك التقنيات الحسية القائمة على اللمس، بل زاوجها مع الاعتماد على عمليات إدراكية ومعرفية لخلق صوره الفنيه، معتمدا على الذاكرة “التي يصفها بأنها “رافقتني كنوع من التميمة”، فباتت الذاكرة والخيال والحدس متممات الرؤية لديه وأدواته في خلق أشكاله الفنية.

حرية العمى

وعلى الرغم من ضعف بصره، ظل مان يقوم برحلات لمواصلة ولعه برسم المناظر الطبيعية، ويصف في شهادة نشرها موقع بي بي سي عام 2015 تجربته في الرسم في هذه الرحلات بقوله “أفضل دائما الرسم في الضوء الساطع، ومنذ ذلك حتى عماي التام في عام 2005 ذهبنا مرات عديدة إلى إيطاليا وفرنسا، كما ذهبت إلى البرتغال وجنوب الهند مع اختي. في الهند والبرتغال، وفي بعض الأحيان في إيطاليا، حدث أن قضيت اليوم الأول في غرفة مظلمة رفقة نوع من الحمى، لكن دماغي ظل متكيفا مع مستويات الضوء الأكثر إشعاعا في المحيط الخارجي. وفي اليوم الثاني ذهبت لأكتشف عالما جميلاً مختلفاً ومدهشاً بإشراق ضوء جديد”.

وسبق لمان خلال حياته أن شرح تجربته الفنية والتقنيات والأساليب التي طورها لتحدي محنة فقدانه البصر ومواصلة عمله الفني في أكثر من فيلم وثائقي، من بينها فيلم أنتجته بي بي سي عام 2014 تحت عنوان “الرسام الأعمى سارغي مان: رسم برؤية داخلية”، وآخر أنتجه ابنه بيتر مان في عام 2006 تحت عنوان “سارغي مان”.

وفي الفيلم الأخير نرى مان برفقة ابنه في رحلة إلى قرية في شمالي شرق إسبانيا، وهو يحاول مواصلة نهجه في رسم المناظر الطبيعية في الأيام الأخيرة قبل فقدانه البصر نهائيا، ونرى كيف يحاول أن يستخدم حسه الهندسي لحساب أبعاد المكان الذي يتلاشى من أمام بصره.

ففي أحد المشاهد نراه يحاول على شرفة مطلة على البحر حساب أبعاد المكان وتلمس حدود الجدار وتفاصيل الشرفة، وعند مشاهدة المعرض الأخير نرى انعكاس ذلك في لوحتين رسمهما بناء على تجربته تلك، في ذات الفضاء الذي تخيله ذهنيا مع شكل زوجته وبعض أفراد عائلته بملابس السباحة.

لقد فرضت تجربة العمى على مان التحول من رسم المنظر الطبيعي إلى رسم الأشخاص ضمن نزعة تصميمية واضحة في فضاءات هندسية محددة، مصحوبة بحرية وجرأة في استخدام اللون عمادها تخيل هذا اللون حدسيا لا استخدامه كنتاج لرؤية مباشرة.

وفي الفيلم يعبر مان عن خياراته الفنية تلك وأثر فقدانه قدرة الرؤية فيها بقوله “اختار التناغم اللوني في كل لوحة حدسيا، مفكرا بطريقة تصميمية (تزينية) واضحة لم أكن أبدا أسمح لنفسي بفعلها سابقا. يبدو أن العمى قد منحني حرية استخدام اللون بطرق لم أكن أجرؤ عليها عندما كنت مبصراً”.

الرسم من الذاكرة

ولم تكن خيارات مان الأعمى بعيدة عن بحثه الجمالي وخلاصاته الفنية وتأثراته طوال حياته عندما كان رساماً مبصراً، إذ عشق لوحات الرسامين الفرنسيين بيار بونار و كلود مونيه، ووصف الأخير في شهادته بأنه كان مثله يعاني من اعتام في عدسة العين يجعل الأشياء تبدو من خلال غلالة من اللون الأصفر – البني، بيد أن تعلق مان ببونار وأسلوبه في الرسم من الذاكرة وليس من المشاهدة المباشرة منحه إحساسا خاصا بالفضاء ساعده كثيرا في الرسم أثناء محنة عماه.

ترجع علاقة مان ببونار (يستضيف متحف التيت للفن الحديث أكبر معرض استعادي له في العاصمة البريطانية حاليا)، إلى مشاهدته أعماله في المعرض الاستعادي الذي أقيم في الأكاديمية الملكية للفنون بلندن في عام 1966، وعمل لاحقا قيما مشاركا في إعداد معرض له في غاليري هيوارد بلندن في عام 1994.

لقد انجذب مان ليس إلى حرية بونار واستخدامه الإبداعي المميز للون فحسب، بل إلى معالجته للمكان، ونزعته التصميمة المميزة في توزيع كتله وأشكاله في فضاء اللوحة، لاسيما تلك الزوايا الواسعة التي ينظر فيها إلى موضوع لوحته، التي تسمح له بتوسيع حقل الرؤية للنظر إلى العديد من التفاصيل الهامشية في المحيط وضمها في إطار لوحته.

وعن ذلك كتب مان في دراسة شهيرة نشرها عن بونار: “لتمثيل حقل الرؤية بالنسبة لبونار كانت زاوية 60 درجة معتادة تماما، وزوايا 80 إلى 90 درجة لم تكن غير مألوفة لديه، لكنني وجدت أن لوحتين من لوحاته تمتد كل واحدة منهما في زاوية لا تصدق تصل إلى 130 درجة من اليسار إلى اليمين”.

ولم يكتف مان بتحدي محنة فقدان البصر، بل حرص على استثمارها في سياق تعميق بحثه الجمالي عن المرئي وغير المرئي وعن الحضور والذاكرة، وتعزيز النهج الذي تَرّسم فيه بونار في الرسم من الذاكرة وليس من الطبيعة مباشرة أو ما يمكن أن نسميه هنا “الرسم المتخيل”.

لقد أعطته تجربة العمى تلك حرية أكبر في تقديم تطبيق خالص لهذا النهج إلى الدرجة التي يمكننا القول أن العمى حرره تماما من كل تشويش يمكن أن ينجم عن حضور الأشياء أثناء المشاهدة المباشرة للطبيعة على تمثيلاتها التي يستحضرها من ذاكرته في سياق تعامل إبداعي خلاق وليس تقليدا وتماهيا مع تلك الطبيعة.

ويوضح مان في شهادته تلك الحقيقية بقوله “بالطبع، لم أختر أبدا أن أصبح رساما أعمى، لكنني كنت متشوقا لاكتشاف أنه يمكنني رسم لوحات من دون إبصار، وهذا النشاط يبدو إلى حد كبير استمرارا لتجربتي في الرسم بشكل قد يكون أكثر مما تخيلته”.

لقد فقد مان قدرة الإبصار، وليس ثمة كارثة بالنسبة لرسام أكبر من تلك التي تفقده أداته الرئيسية في رؤية العالم وتمثيله وعكسه في أعماله الفنية، لكنه اختار التحدي وتجاوز محنته بقوة البصيرة، ليترك لنا كل هذا الجمال في لوحاته، فضلا عن مناقشته النظرية للتجربة الفنية والأسلوب من موقع لم يتوفر لغيره أبدا، هو موقع الرائي الأعمى.

Comments are closed.