منذ الصغر كنا نصغي الى اذاعة صوت العرب والمذيع يقرأ مقاله الاسبوعي الشهير بصراحة،”فالجورنالجي” كما يحب ان يصف نفسه حاز على مسامع الجميع لانه كان قريبا من الزعيم عبد الناصر.. الاستاذ الكبير محمد حسنين هيكل الذي يصارع المرض وقد اشرف على الثالثة والتسعين من عمره ظل صحافيا بارعا متعدد المواهب حاز على اعجاب لم يسبق له مثيل واعطى للمهنة قيمتها ورونقها وفرض احترامه على السياسي والاقتصادي، وهو يتميز بعبقرية يمكن ملاحظتها من بريق عينيه اذا جالسته، ففي عيون العباقرة تجد بريقا مميزا ونظرات خاطفة نادرة كنت اراها في محمود درويش وياسر عرفات، ولديه شغف في توجيه الاسئلة لمعرفة التفاصيل لمقارباته التاريخية وهو يستمع عادة اكثر مما يتكلم لأن كلامه من ذهب، ويجمع المعلومات ويريد ان يعرف حتى اذا تحدث كانت مقالاته وكتبه واحاديثه خصبة. قابلته اول مرة في الكويت عندما زارها في طريق عودته من طهران بعد الثورة الايرانية ثم درجنا على شراء حقوق نشر كتبه ومقالاته في صحيفة الوطن اولا ثم القبس لاحقا.
في منتصف الثمانينيات زرته في مكتبه في الطابق الخامس خلف شيراتون القاهرة على النيل وكان يغطي شرفة منزله حتى لا يرى علم اسرائيل في بناية مجاورة قبل انتقالها الى مبنى آخر، كان يقيم في شقة مقابلة لمكتبه وينتقل من منزله الى مكتبه في توقيت محدد يوميا هو الثامنة صباحا كأنه في دوام رسمي، وبدون ان يطرق الباب يكون الفراش عند الباب ليفتحه في تمام الثامنة ليدخل الاستاذ الى غرفة مكتبه.. وما ان يجلس حتى يصل فنجان القهوة ساخنا تنبعث رائحة البن منه بقوة مع بخاره، فيفتح صندوق السيجار الكوبي ويأخذ واحدا ويقصه بمقص ثم يشعله.
ترددت على مكتبه اكثر من مرة, وفي الموعد نفسه، وكان يستغرب عدم تذمري من الموعد المبكر ويقول انا جورنالجي اكتب صباحا لست من الكتاب الذين يكتبون ليلا برومانسية ، وهذه الصفة وجدتها في الراحل الكبير محمود درويش الذي يكتب صباحا ايضا. كان يقول منذ البدء “لي ساعة ولك ساعة” ويعني له ساعة لكي يسأل ولي ساعة لكي اسأل.. فهو استاذ يتعلم ويعلم دوما متواضع عاشق لمصر وعابر للقارات، له الفخر بأنه اعطى للمهنة رونقها وشرفها, وهو ايضا على صلة دائمة بقضيتنا فهو لعب دورا في تقديم قادة فتح الى الزعيم عبد الناصر وكان يحتفظ في درج مكتبه بجواز سفر فلسطيني دبلوماسي اهداه اياه الرئيس الراحل ابو عمار وقال لي وهو يعرضه امامي بالطبع لن استخدمه الا اذا قامت الدولة. اتصلت بمكتبه في الصيف الماضي بينما كان يستعد للاحتفال بعيد ميلاده لكن تعذر ترتيب موعد معه لارتباطاته المسبقة ولارتباطي بالسفر.
كنت اظن قلم الاستاذ هيكل نضج بعد حصوله على الشهرة وارتباطه بالفترة الناصرية لكن تبين لي انه بارع منذ شبابه حيث قرأت له مقابلة مطولة مع العالم اينيشتاين في اميركا ابلغه فيها انه رفض فيها عرضا اسرائيليا برئاسة الكيان الاسرائيلي بعد قيام اسرائيل لأنه ضد العنف وكذلك مراسلاته الحربية عن حرب فلسطين قبل الثورة المصرية. فهو خلق “جورنالجي” وعاش كذلك وسيظل يشار اليه بأنه افضل صحافي وابرزهم على مستوى العالم. شفاه الله وعافاه لأنه اصدق شاهد على العصر.
بقلم: حافظ البرغوثي / صحافي فلسطيني
Comments are closed.