واشنطن (عربي times)
ليس هذا أفضل ما تمناه بكل تأكيد الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب أن يتزامن موعد تنصيبه لولاية ثانية على منصة مبنى الكونغرس، في نفس الفترة التي اختارها البيت الأبيض لإقامة مراسم جنازة رسمية للرئيس التاسع والثلاثين للولايات المتحدة الراحل جيمي كارتر .
هذه حالة نادرة الحدوث في التاريخ الأمريكي بكل تأكيد، لكن هذا التزامن سيلقي بظلاله حتمًا على عمليتي إنهاء الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن لعهدته الرئاسية الأولى والأخيرة في البيت الأبيض.
كما أنه سيلقي بظلاله أيضًا على كيفية عودة الرئيس السابع والأربعين إلى البيت الأبيض للمرة الثانية في حالة تاريخية نادرة هي الأخرى، حيث لم تحدث في التاريخ الأمريكي سوى مرة واحدة وقبل قرن من الزمن عندما نجح الرئيس “جروفر كليفلاند” وقتها في الفوز بولاية رئاسية ثانية بعد خسارة سابقة، ونجاحه في الفوز بانتخابات العام 1892.
3 رؤساء سيشكلون المشهد في العاصمة واشنطن في توقيت واحد: اثنان منهم ديمقراطيان، والثالث جمهوري.
وكلا الرئيسين الديمقراطيين سيكونان أمام لحظة وداع للعاصمة واشنطن، وللمشهد السياسي الأمريكي، فيما يستعد الثالث الجمهوري ليكون سيد المشهد خلال السنوات الأربع المقبلة.
ستكون العاصمة واشنطن، ومن ورائها الولايات المتحدة جمعاء، في أسبوع الوداع لرئيسها المزارع الذي جاء إلى المشهد السياسي من مدينة صغيرة بولاية جورجيا “بلينز” في سبعينات القرن الماضي، ويتصدر المشهد ويكون رئيسًا للولايات المتحدة في وقت لا تزال فيه الأمة الأمريكية تتعافى من آلام التفرقة العنصرية بين فئتين اجتماعيين: البيض والسود.
خسر انتخابات
كارتر كافح بكل ما أوتي من قوة وطاقة بداخله لأجل أن يضع بصمته في التاريخ السياسي للولايات المتحدة، لكن أحداثًا كانت في صالحه، وزادت في نجوميته المتدفقة حينها، ومنها السلام في الشرق الأوسط بين اسرائيل ومصر بالتوصل إلى اتفاقية كامب ديفيد.
لكنه في مقابل ذلك خسر انتخابات التجديد لولاية ثانية أمام النجم الجمهوري الصاعد حينها “رونالد ريغان”، على خلفية أزمة الرهائن في السفارة الأمريكية في العاصمة الإيرانية طهران.
يجمع كتاب التاريخ على أن كارتر هو الأول بين جميع رؤساء الولايات المتحدة، الأحياء منهم والأموات، بلقب أفضل رئيس سابق في تاريخ البلاد.
انحاز كارتر خلال الأربعة عقود الماضية التي فضل خلالها أن يعيش بين جيران وأصدقاء طفولته في مدينة “بالينز” بولاية جورجيا، إلى الانتصار لجميع القضايا التي يراها عادلة، ومنها حق الفلسطينيين في الحياة بكرامة، وفي إطار دولتهم المستقلة، وكذلك دفاعه لتعزيز حقوق الإنسان وممارسة الديمقراطية، وحماية حق الانتخاب في جهات مختلفة من العالم، إضافة إلى محاربة الأمراض المميتة، ومساعدة الفقراء والمعوزين داخل الولايات المتحدة وفي جهات العالم المختلفة.
عندما أقام الرئيس السابق جورج بوش حفل استقبال وغداء للرؤساء الأمريكيين الأحياء في مكتبه البيضاوي، وجمع بينهم في صورة واحدة داخل المكتب البيضاوي الذي عمل فيه جميع من كان في الصورة، بدءًا من جورج بوش الابن والأب، وبيل كلينتون، والرئيس المنتخب حينها باراك أوباما، اختار الرئيس كارتر أن يبتعد قليلاً عن بقية الأربعة، ويترك مسافة بينه وبينهم واضحة للعيان.
وهي مسألة يقول أفراد عائلته إنها كانت مقصودة من قبل كارتر.
الرئيس الأطول عمرًا بين الرؤساء الأمريكيين كان يريد من خلال تلك المسافة أن يقول إنه جزء من هذا النادي المحدود الأعضاء، لكنهم سيحتفظون له بهذه المسافة الفاصلة التي تسمح له بالتعبير عن رأيه بحرية، وإعلان آرائه في قضايا الداخل والخارج دون الالتزام بواجبات الزمالة، وأعراف الممارسة السياسية في العاصمة واشنطن التي تقضي بأن يتجنب الرؤساء السابقون انتقاد الرئيس الجالس في المكتب البيضاوي.
كانت تلك المسافة دائمًا موجودة في حياة كارتر خارج البيت الأبيض، وكانت جميع آرائه معلنة في مؤلفاته السبعة والثلاثين التي كتبها بعد الخروج من واشنطن.
كما كانت آراؤه حادة عندما تناول خطاب ومسار الرئيس المنتخب دونالد ترامب في كلا المرتين اللتين ترشح فيهما للرئاسة عامي 2016 و2020.
النموذج الأمريكي
سيكون المشهد كالتالي في يوم الوداع بين رجلين اختلفا في كل شيء يتعلق بالسياسات الأمريكية في الداخل، حيث احتفظ كارتر دائمًا بتلك الروح الأمريكية التي جاءت به من منصب حاكم ولاية جورجيا، وعضو في مجلس الشيوخ لعهدة واحدة إلى المكتب البيضاوي.
وهي أن الثوابت الأمريكية غير قابلة للمساس، ومنها خاصة الدفاع عن حقوق الإنسان، وتعزيز قيم المساواة والتعايش بين الأمريكيين، مع التأكيد دائمًا على أن أفضل وسيلة للترويج لحقوق الإنسان في بقية العالم تتم من خلال إظهار تفرد النموذج الأمريكي في الديمقراطية وإدارة الحكم، وذلك وحده كفيل بجعل العالم يسارع إلى تقليد النموذج الأمريكي.
كارتر يضيف إلى ذلك أنه لا شيء يجعلنا صادقين مع الآخرين كالصدق مع أنفسنا أولًا، إضافة إلى تلك المقولة المدوية التي كررها في مناسبات عديدة وهي أن الظلم سيكون مرضًا معديًا ما لم تتم مقاومته بالصورة الكافية.
لم يكن كارتر معجبًا بخطابات ترامب في حملتيه الانتخابيتين، كما لم يكن راضيًا على طريقة إدارة ترامب لولايته الأولى في البيت الأبيض، كما لم يكن متحمسًا لإعادة انتخابه في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
كما أنه لم يخفِ آخر أمانيه في الحياة عندما قال إنه يسأل الله أن يطيل عمره حتى يستطيع أن ينتخب المرشحة الديمقراطية السابقة كامالا هاريس، ويراها رئيسة للولايات المتحدة.
حدث وأن صوت كارتر لصالح هاريس، لكن هاريس خسرت الانتخابات لصالح ترامب، وهو ما لم يغير الكثير في علاقة الرئيسين كارتر وترامب حتى وإن نجح ترامب في ضمان عودة ثانية إلى البيت الأبيض.
ولاية واحدة
اختار كارتر أسلوبًا محددًا في التعامل مع رئاسته التي لن تستمر لأكثر من ولاية واحدة، وهو منهاج التسويات السلمية، ورسخ مقولته التي كانت تقول دائمًا إن الاتفاق الوحيد الذي يملك القدرة على الحياة هو الاتفاق الذي يضمن انتصار الطرفين الموقعين عليه.
عندما اختار كارتر في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي إنهاء السيطرة الأمريكية على قناة بنما، كان بذلك ينحاز إلى الخيار السلمي، واستمر ذلك الاتفاق قائمًا حتى الآن. لكن الرئيس ترامب لديه وجهة نظر مختلفة تمامًا، عندما وصف قرار كارتر بالخطأ التاريخي وقال إنه سيعمل على إعادة النظر في الاتفاق بشأن سيطرة بنما على القناة.
هذا التصريح العلني من قبل ترامب في الأسابيع الأخيرة والتي صادفت الأيام الأخيرة من حياة كارتر أعاد إلى الواجهة طبيعة العلاقة المتوترة بين الرجلين، ولو أن الرئيس المنتخب اختار لغة هادئة في رسالة تأبينه لكارتر والعزاء لأفراد عائلته.
التقدير المشترك والعرفان
على العكس من علاقة كارتر وترامب، اتسمت علاقة بايدن بالرئيس الراحل بالكثير من التقدير المشترك والعرفان، بل في كثير من المناسبات، كان هناك تطابق وتماهي في علاقات الرجلين.
كلاهما يأتي من نفس الحزب، وكلاهما يأتي من نفس الحقبة التاريخية. حيث صادف أنه في الوقت الذي كان فيه كارتر يرأس البلاد، كان الشاب الثلاثيني وقتها جوزيف بايدن يأتي من ولاية ديلاوير ليبدأ رحلة سياسية في العاصمة واشنطن ستستمر من بعد ذلك لمدة نصف قرن كامل، وتنتهي به في البيت الأبيض بعد ولاية واحدة تمامًا كما حدث مع كارتر.
بالإضافة إلى ذلك، ليكون هو الرئيس الذي يوقع قرار يومًا وطنيًا للحداد على الرئيس الراحل، وكذلك قرار إقامة جنازة رئاسية لكارتر في العاصمة الفيدرالية للبلاد.
دافع بايدن كثيرًا عن فكرة إعادة الممارسة الرئاسية في البيت الأبيض إلى أصولها وتقاليدها الرئاسية السابقة اعتراضًا على أسلوب غريمه دونالد ترامب في إدارة البلاد خلال ولايته الرئاسية السابقة. ولذلك، فهو يشترك بقوة مع وجهات نظر الرئيس كارتر في جوهر ومبادئ الممارسة الرئاسية والسياسية داخل الولايات وخارجها.
تغير العالم كثيرًا خلال قرن من الزمن، وهو عمر الرئيس كارتر ومنه 4 سنوات في البيت الأبيض.
وقبل ذلك مسار شخصي وسياسي حافل على مستوى ولايته جورجيا ومبنى الكونغرس، ولكن هناك مشتركات كثيرة وثوابت يجب أن تظل راسخة في السياسة الأمريكية. ذلك لأن لأمريكا “حمضها النووي” الذي لا يجب أن تتنازل عنه، كما يقول بذلك الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن.
في زيارته الأخيرة للعاصمة واشنطن، سواء داخل مبنى الكابيتول أو في مقر الكاتدرائية الوطنية، قبل عودة جثمان كارتر إلى مدينته الصغيرة “بلينز” التي ولد واختار العيش فيها عمره كاملاً برفقة رفيقة دربه السيدة الأولى الراحلة “روزالين كارتر”.
Comments are closed.