المِنطاد الصيني الذي أثار رُعب الولايات المتحدة وكندا.. لماذا نَشُكّ بالرّواية الرسميّة التي تنفي عنه طابع التجسّس؟ ولماذا لم يَأمُر بايدن بإسقاطه بعد تحليقه فوق قواعد صواريخ نوويّة؟ وما هي الرّسالة الصينيّة والدّروس المُستَخلصَة من هذا الاختِراق؟
أن يخترق مِنطادٌ صينيّ الأجواء الأمريكيّة والكنديّة ويُحلّق فوق قواعد عسكريّة حسّاسة لعدّة أيّام قبل أن يتم اكتشافه، فهذا اختراقٌ أمنيّ وعسكريّ خطير يكشف هشاشة الإجراءات الأمنيّة لدولةٍ عُظمى مِثل الولايات المتحدة الأمريكيّة، ودُخولها مرحلة الشّيخوخة أمام خصمٍ استراتيجيٍّ في حالةِ صُعودٍ على مُعظمِ الجبهات.
السّلطات الصينيّة أعربت عن أسَفِها لانتهاكِ المِنطاد للأجواء الأمريكيّة، وأكّدت أن مَهمّته ليس للتجسّس، وإنّما للبحث العلميّ، وانحرف مساره بسبب رياحٍ قويّةٍ غير مُتوقّعة، ولا يجب تضخيم هذه الحادثة.
نظريًّا، وللوهلةِ الأولى، تبدو هذه الرّواية الصينيّة صحيحةً، ولكن إذا كان الأمر كذلك، والحدث عرَضي غير مقصود لماذا أقدمت الإدارة الأمريكيّة على إلغاءِ زيارة أنتوني بلينكن وزير خارجيّتها إلى الصين المُقَرّرة يوميّ الأحد والاثنين المُقبلين؟
ما يجعلنا ربّما والكثير غيرنا، رؤية حادثة هذا المِنطاد الذي يَبْلُغ حجمه ما يُوازي ثلاث حافلات معًا حلقةً من حلقاتِ حرب التجسّس المُتصاعدة حاليًّا بين الصين والولايات المتحدة، وتوتّر العلاقات بين البلدين على أرضيّة التّهديدات الصينيّة بضمّ جزيرة تايوان، ووقوف بكّين في الخندقِ الروسيّ في حرب أوكرانيا.
فإذا كان هذا المِنطاد مدنيًّا، وللأبحاث الجويّة فقط، فلماذا حلّق فوق قواعد عسكريّة تضم صواريخ نوويّة باليستيّة بعيدة المدى عابرة للقارّات في مِنطقة مونتانا؟ ولماذا جرى إعلان حالة التأهّب في صُفوف الجيش وأجهزة الاستِخبارات الأمريكيّة والكنديّة معًا؟
الصين أرسلت عدّة مناطيد للتجسّس على مواقع عسكريّة استراتيجيّة أمريكيّة في الماضي، ولماذا لا يكون هذا المِنطاد قد أُرسِلَ للغرضِ نفسه؟ ثمّ كيف يقطع أكثر من 5000 كيلومتر من البرّ الصيني إلى البرّ الأمريكي دون اكتِشافه وتصحيح مساره من قِبَل الدّولة التي أطلقته، أو إسقاطه في البحر وقبل وصوله إلى البر الأمريكي؟ فهل ابتعلت واشنطن الإهانة في ظِلّ غرقها في مُستَنقعِ الحرب الأوكرانيّة؟
ما يدفعنا لطرح هذه الأسئلة الافتراضيّة أن القِيادة العسكريّة الأمريكيّة العُليا أبلغت الرئيس الأمريكي جو بايدن بوجود هذا المِنطاد واختِراقه للأجواء الأمريكيّة، وتحليقه فوق مناطق عسكريّة حسّاسة، وعرضت إسقاطه فورًا، لكنّ الرئيس بايدن طلب عدم إسقاطه بذريعة احتِمال تسبّب شظاياه بإلحاقِ أضرارٍ ببعضِ المُواطنين على الأرض.
إنها رسالةٌ صينيّةٌ تحذيريّةٌ مُحتملةٌ إلى الولايات المتحدة التي تخترق الأجواء، والمِياه الإقليميّة الصينيّة في خليج تايوان والمِياه الدوليّة في بحر الصين، من خِلالِ إرسال حاملات الطّائرات والفُرقاطات العسكريّة، وتنخرط في مُناوراتٍ مُكثّفةٍ بالأسلحةِ كافّة مع كوريا الجنوبيّة واليابان، وتُقيم قواعد جديدة في الفلبّين وغيرها من دُول شرق وجنوب آسيا.
مِنطادٌ للأرصاد والأبحاث الجويّة لا يُمكن أن يُثير حالةَ الرّعب والتأهّب هذه في الولايات المتحدة وكندا، ويُلغي زيارة وزير خارجيّة كانت ستكون الأولى إلى الصين وبعد قطيعة امتدّت لأكثر من خمس سنوات تقريبًا.
إذا كان هذا المِنطاد هو أحد جولات حرب المُخابرات والتجسّس بين أمريكا والصين، فإنّه يُمكن القول إن الأخيرة، أيّ الصين، كسبت هذه الجولة، وأثبتت أنها أكثر استِعدادًا لأيّ مُواجهةٍ قادمة.. واللُه أعلم.
عبد الباري عطون
لندن
Comments are closed.