بعد الطائرات الخاصة، والمواكب، والذهاب والإياب إلى شقة مانهاتن المصنوعة من الذهب، لم يسجل التاريخ سوى ثلاث ثوان كاملة حفظت في الأرشيف. وجه برتقالي هزيل تبدو عليه ملامح الغضب يدخل أحد الأبواب ويتجه يساراً نحو آخر. وكان هذا كل شيء.
هناك صورة أخرى له أيضاً، يظهر فيها بعينين منتفختين، ووجنتين عريضتين، وشفتين مزمومتين، وفك ثابت ومشدود. وقد كان بطل العالم للوزن الثقيل، يتبختر في المؤتمر الصحافي متجهاً نحو المعركة الكبرى التي يعرف في أعماقه، أنها ستطيحه إلى الأبد.
لا بد من تحقيق العدالة ويجب أن نشاهدها تتحقق بأعيننا. منذ فترة ليست ببعيدة، كان المثال الأميركي هو الذي أقنع المحاكم البريطانية بالسماح أخيراً بدخول الكاميرات إليها لتصوير ما يحدث فيها. ويوم الإثنين، في نقل مباشر على الهواء، تمت تلاوة الحكم الصادر في حق قاتل أوليفيا برات كوربيل، توماس كاشمان، الذي اقتضى سجنه 42 عاماً.
وعلى رغم ذلك، فإن توجيه التهم للرئيس الأميركي السابق، والقراءة الكاملة لـ34 تهمة جنائية ضده، حدثت خلف أبواب مغلقة. نعلم أن ترمب أنكر تلك التهم وأعلن أنه غير مذنب وأصر على أن يكون هو شخصياً من سيقف ويلفظ هذه الكلمات، وليس محاميه. فلا بد من أن يستمر العرض، حتى خلف الكواليس [حتى لو بقيت الستائر منسدلة].
لساعات، ركز العالم اهتمامه على ممر خارج قاعة المحكمة كان من الممكن أن يتبين لنا بوضوح أنه في نيويورك لو استطعنا أن نرى من خلف الباب مبنى إمباير ستيت يطل علينا من الشارع. كان رجال الشرطة يمضغون العلكة ويسيرون باهتياج في أحذيتهم المكسوة بالفولاذ. وفي الواقع، لا يبدو أن أولئك الرجال الذين يحملون أحزمة أسلحتهم الثقيلة بهذا الشكل في كل مرة يذهبون فيها إلى عملهم، هم أشخاص من النوع الذي تثقل كاهلهم لحظات مثل تلك التي مروا بها.
لقد وجه المدعي العام 34 تهمة جنائية ضد الرئيس السابق، ونفاها هذا الأخير جميعها. وكل تهمة منها ستشغل آلة التظلم الصناعية الخاصة به [أي أنها ستشكل سبباً إضافياً يدفعه إلى التظلم والشكوى]، وستزيد من أساليبه في التحريف المصقولة بعناية الآن.
إذا كانت هذه اللحظة تمثل السقوط النهائي لدونالد ترمب، فإنها تمنحك شعوراً غير عادي. عندما نال نيكسون ما كان يستحقه، شعر خصومه بسعادة غامرة. أما هذه المرة، فالمشاعر الأولية تنذر بالسوء.
هذه القضية في المحكمة، والقضايا الثلاث الأخرى المقبلة التي يمكن القول إنها أكثر جدية، تعود كلها إلى مسألة واحدة بسيطة لم تتغير منذ مدة ولا تزال تحدد السياسة الأميركية، وهي الآتية: مضى أكثر من عامين، وما زال الناخبون الجمهوريون بغالبيتهم يعتقدون أن انتخابات 2020 قد زورت وسرقت منهم.
وهناك نسبة كبيرة منهم قد لا تتعافى من أوهامها مطلقاً، ولكن لا يمكن إصلاح السياسة الأميركية قبل أن تتحول هذه الأغلبية إلى أقلية. لا تزال أميركا بلداً ديمقراطياً يقوم نظامه على حزبين، وسيظل مهدداً طالما رفض حزب واحد الديمقراطية بحد ذاتها. وبصراحة، لا تحتاج أميركا إلى تظلم جديد يصب الزيت على النار.
عرضت صورة صغيرة لترمب مصممة خصيصاً لوسائل التواصل الاجتماعي أرفقت معها العبارة التالية: “هم لا يسعون إلى النيل مني، بل منكم”. وهذا مجرد كلام فارغ لا يعني شيئاً. إنها أمور عادية لها علاقة بنظريات المؤامرة. ففي الواقع، هم يلاحقون ترمب لأسباب محددة للغاية. ولن يسعوا خلفكم إلا إذا كنتم قد دفعتم أيضاً أكثر من 100 ألف دولار أميركي لشراء صمت ممثلة إباحية، ثم سددتم هذه الدفعة من خلال حسابات شركتكم، مما يوفر عليكم عشرات الآلاف من الدولارات من الضرائب.
ووفق ما يقوله المتحدثون في القنوات الإخبارية التلفزيونية الأميركية، فكل هذه الأمور هي دعاية مجانية، وهي من قبيل الوقت المخصص للبث والإعلانات لم يضطروا إلى شرائه. وطالما أن المروحيات تحلق فوق سيارته التي تقله من المحكمة وإليها، فستتردد أخباره على كل لسان، فيما لن يتكلم أحد عن رون ديسانتيس [المرشح المنافس لترمب في الحزب الجمهوري]. إنها سياسة قديمة وغريبة، لكنها السياسة المعتمدة حالياً.
كل المقربين من ترمب الذين يظهرون على المحطات الإخبارية نفسها، مثل روجر ستون، مساعد ترمب السابق الذي حكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات قبل أن يقر رئيسه بالعفو عنه، يقولون الشيء نفسه. والجدير بالذكر أن ستون قد ردد تلك العبارات نفسها، حين ظهر على سكاي نيوز بسمرته المزيفة، وكان يبدو تماماً بمظهر تتوقع رؤيته عندما تطلب من روبوت ذكاء صناعي أن يرسم لك صورة كاريكاتيرية لشخصية النصاب والوضيع. “التضخم خارج عن السيطرة. أسعار الوقود، وأسعار المواد الغذائية، والمليارات التي أنفقت على أوكرانيا”.
هل ستكون هذه الأمور كافية لجعل أميركا تقرر أنها أخطأت في عام 2020؟ وأن الرجل الذي نظم الانقلاب الذي قتل فيه ضابط شرطة، والذي يجلس الآن عابساً في قفص الاتهام هو الرجل الذي يريدونه حقاً؟ يبدو ذلك مستبعداً، ولكن لا أحد يستطيع الإنكار أن أموراً أكثر غرابة قد حدثت من قبل، وهي تحدث طوال الوقت هذه الأيام.
توم بيك
صحافي من أسرة الاندبندنت متخصص في الشؤون السياسية
Comments are closed.