لم يُفاجئنا البيان الخُماسيّ المُشترك الذي صدر عن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا مساء الاثنين يُطالب، بل “يأمُر” إيران بعدم التّصعيد، والتّراجع على تهديداتها المُتواصلة بشنّ هُجوم عسكري على دولة الاحتلال الإسرائيلي، ويُهدّد بشكلٍ مُباشرٍ بالرّد على هذا الهُجوم تحت ذريعة حماية إسرائيل، فمن الواضح أنّ هذه الدّول التي تُشكّل النّواة الصّلبة لحِلف النّاتو تُوفّر علنًا الغِطاء العسكري والسياسي لكُلّ الجرائم الإسرائيليّة، وانتهاكاتها للقانون الدولي، وبِما يُشجّعها للمُضيّ قُدُمًا في حرب الإبادة التي تخوضها حاليًّا في قطاع غزة وأدّت حتّى الآن إلى استشهادِ 40 ألفًا وإصابة مئة ألف آخرين، النّسبة الأكبر منهم من الأطفال.
ما يُؤكّد ما قُلناه آنفًا، إرسال الولايات المتحدة حاملة طائرات أمريكيّة (لينكولن) وغوّاصة بصواريخٍ نوويّة لتنضمّ إلى حاملة الطّائرات آيزنهاور في شرق المتوسّط، علاوةً على 14 ألف قنبلة “عِملاقة” بأوزانٍ تتراوح بين 2000 رطل إلى 500 رطل في خطوةِ ترهيبٍ، واستعدادًا لدعمِ أيّ هُجومٍ إسرائيليٍّ ضدّ إيران ومُنشآتها النوويّة كَرَدٍّ على الرّد.
نتنياهو المهزوم يسعى إلى حربٍ عالميّةٍ ثالثة يُورّط فيها الغرب، ويعتبر طُوفان الأقصى الذي دمّر هيبة كيانه وجيشه، بمثابة هُجوم على غِرار الياباني “بيرل هاربر” أو نظيره الحادي عشر من سبتمبر 2001، ولهذا سارع إلى انتهاك السّيادة الإيرانيّة بطريقةٍ استفزازيّةٍ مدروسةٍ باغتيال الشّهيد إسماعيل هنية في قلبِ العاصمة طِهران (كان أسهل عليه اغتياله في قطر أو لبنان، أو حتّى إسطنبول) لاستفزاز إيران، ودفعها إلى الرّد القاسي الذي يرتقي إلى مُستوى هذا العُدوان، دِفاعًا عن كرامتها وهيبتها، وبما يُؤدّي إلى حربٍ إقليميّةٍ قد تتطوّر إلى حربٍ عالميّةٍ يخوضها الغرب بقيادة أمريكا تحت ذريعة حماية كيانه.
نتنياهو هو العقل المُفكّر والمُحرّض الرئيسي للعُدوان الأمريكي على العِراق واحتِلاله وتفكيكه، ومنعه من التحوّل إلى قوّةٍ إقليميّة، والذّريعة منعه من امتلاك أسلحة دمار شامل من بينها السّلاح النووي، والآن يُريد تِكرار السّيناريو نفسه ضدّ إيران، وللذّرائع نفسها، ولعلّ البيان الخُماسي الأوروبي- الأمريكي المُشترك الذي ذكرناه في بداية هذا المقال هو المُؤشّر الأوّلي على نجاح مُخطّطه التّوريطي الذي يسعى إليه، وروّج له في خِطابه الذي ألقاهُ أخيرًا في الكونغرس الأمريكي عندما قدّم نفسه مُقاتلًا باسم الحضارة الغربيّة ضدّ الهمجيّة العربيّة والإسلاميّة لحماية الغرب، دفاعًا عنه، ومُصالحه، ولهذا فالمُساعدات العسكريّة الأمريكيّة المُتطوّرة ليست لحماية “إسرائيل”، وإنّما الغرب ومصالحه، ولا ننْسَ أيضًا أنّ نتنياهو هو الذي حرّض ترامب على إلغاءِ الاتّفاق النوويّ مع إيران.
قمّة الوقاحة أنْ تُطالب الدّول الخمس إيران بوقف التّصعيد، وعدم الدّفاع عن كرامتها وسِيادتها، ولا تُوجّه كلمة لوم واحدة لنتنياهو الذي فجّر هذه الأزمة مُتَعَمّدًا، باغتيال مُخابراته للشّهيدين هنية في طِهران، والسيّد فؤاد شكر قائد قوّات حزب الله في قلب الضّاحية الجنوبيّة معقل حزب الله في بيروت، وهذه الوقاحة يجب أنْ لا تظلّ دون ردٍّ قويٍّ يُؤدّي إلى وضعِ حدٍّ لهذه الغطرسة والاستِكبار مهما كانَ الثّمن، خاصَّةً أنّ أمريكا ليست عصيّةً على الهزائم، وخسرت جميع حُروبها في الشّرق الأوسط، ابتداءً مِن أفغانستان وانتهاءً بالعِراق.
السيّد ناصر كنعاني المتحدّث باسم الخارجيّة الإيرانيّة كانَ مُصيبًا وعلى قدر المسؤوليّة، عندما ردّ على هذا الاستِكبار الغربيّ برئاسة أمريكا وبيانه الخُماسي الاستفزازيّ عندما قال “إنّ الجمهوريّة الإسلاميّة مُصمّمة على الدّفاع عن سِيادتها، ولا تطلب الإذن من أيٍّ كان لمُمارسة حُقوقها المشروعة في الرّد” وأضاف “أنّ الطّلب الغربيّ يفتقر إلى المنطق السياسيّ ويتناقض مع مبادئ وأحكام القانون الدوليّ ويُشكّل دعمًا علنيًّا وعمليًّا لإسرائيل” وندّد بهذا الإعلان الذي لا يتضمّن أيّ مأخذٍ على الجرائم الدوليّة التي يرتكبها النّظام الصّهيونيّ، ويطلب بوقاحةٍ من إيران عدم الرّد بشَكلٍ رادعٍ على من انتهك سيادتها”.
هذا الموقف الإيراني الذي يتمسّك بحقّ الدّفاع بكُل السُّبُل والوسائل المُمكنة عن كرامةِ بلاده وسيادتها في وجه “العُدوانات” الإسرائيليّة، قديمها وجديدها، إذا تُرجم عمليًّا بردٍّ قويٍّ، يستحقّ الدّعم عن كُل العرب والمُسلمين، ووضع أي خلافات حقيقيّة أو مُفتعلة جانبًا، فإيران تُواجه هذه التّهديدات الأمريكيّة، والغربيّة بسبب دعمها للمُقاومة ضدّ الاحتلال بأذرعها كافّة، عربيّة وفِلسطينيّة، وعلينا أنْ نتذكّر بأنّ المُجاهد الشّهيد إسماعيل هينة الذي اغتيل على أرضها هو رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” التي أوقعت كتائب قسّامها وفصائل المُقاومة الأُخرى أكبر هزيمة في تاريخ دولة الاحتلال تمثّلت في هُجومِ “طُوفان الأقصى”، والصّمود عشرة أشهر في وجْهِ حرب الإبادة الإسرائيليّة في قطاع غزة، وإلحاقِ خسائر ماديّة وبشريّة ضخمة وغير مسبوقة في تاريخ دولة الاحتلال القصير.
دولة الاحتلال هذه، هي التي تُريد الحرب، وهي الخطر الحقيقي على أمن المِنطقة واستِقرارها بارتكابها المجازر في حقّ الأبرياء، وأمريكا الدّاعم الأكبر لهذه المجازر علانية، وفي وضحِ النّهار، ستكون الخاسِر الأكبر إذا نجحت خطط نتنياهو في توريطها.. والأيّام بيننا.
عبد الباري عطوان
لندن
Comments are closed.