مغامرة نتنياهو تدخل منعطفاً خطيراً

مصير الجبهة الشمالية مهمٌ جداً الآن ليس فقط لـ”إسرائيل”، بل للولايات المتحدة أيضاً، خصوصاً أنها يمكن أن تشكل مدخلاً إلى حربٍ كبرى يريدها نتنياهو، حتى يستنجد في خضمها بأساطيل أميركا.

كبيرة ودالة هي الأحداث التي تشهدها المنطقة الممتدة من اليمن إلى فلسطين المحتلة هذه الأيام. أشياءٌ تظهر للمرة الأولى.

المستجد من هذه التطورات هو الصاروخ اليمني الفرط صوتي الذي أصاب منطقةً قريبة من مطار “بن غوريون” في “تل أبيب”، متجاوزاً الدفاعات الإسرائيلية كلها، وقاطعاً مسافةً طويلة وحده من دون أسرابٍ معززة تساعد على إشغال الدفاعات.

حدث ذلك على وقع أحداثٍ أخرى شديدة الخطورة، منها التصعيد المستمر على الجبهة الشمالية والتهديد الإسرائيلي بعملية قوية في لبنان.

أولاً، لماذا يشكل الصاروخ اليمني نقلة نوعيّة في الصراع القائم وعلامة حقيقية على شكل الحرب الواسعة إن حدثت، وسبباً كبيراً يمنع حدوثها في وقتٍ قريب؟

في التفاصيل التقنية، كان التشكيك قائماً في الفترة الماضية حول إعلان الجيش اليمني امتلاك صواريخ فرط صوتية. لم يكن كثر من المراقبين يصدقون الأمر، وقد سال الكثير من الحبر للتقليل من أهمية ذلك الإعلان والتشكيك في حقيقته، لا بل ذهب البعض إلى استخدام التهكم كسلاحٍ لتقويض مصداقية القوات اليمنية.

جاء إطلاق الصاروخ اليمني الجديد ليرد بالمعطى والدليل على ذلك، فيؤكد وجود هذه التقنية عند اليمنيين، والتي وفّرت للصاروخ إمكانية التحليق مسافة 2040 كيلومتراً بأقل من 12 دقيقة فقط، وهو ما يعني تجاوز سرعته سرعة الصوت بأضعاف.

لكن أهمية ذلك ليست فقط في السرعة، بل في معنى وصول “صاروخ واحد” غير مصحوب بأسراب مسيّرات أو بصواريخ أخرى عابراً ألفي كلم إلى هدفه، ومخترقاً طبقات منظومة الدفاع الإسرائيلية بأكملها، وأنظمة دول عديدة أيضاً. ونحن هنا نتحدث عن أنظمة دفاع جوي أميركية من طراز “باتريوت”، إلى جانب “حيتس” و”مقلاع داوود”.

إذاً، لم تفلح القبة الحديدية ولا ذكرى العدوان على الحُديْدة في أن تمنع اليمنيين من ضرب عمق الكيان الإسرائيلي ضربة مليئة بالمعاني والرسائل والاحتمالات. وعليها سوف تبنى سيناريوهات وتخيّلات لا مكان فيها للأمان والطمأنينة بالنسبة إلى “إسرائيل”. فما الذي يمكن تخيّله؟

تقول رسالة الصاروخ اليمني إن قوى جبهة المقاومة قد تكون تمتلك هذا النوع من القدرات في غير اتجاه. وإذا كان اليمن يبعد 2000 كلم، فإن المساحات الأخرى التي قد تفتح باب النار العظيمة أكثر قرباً وأصعب على الدفاعات الإسرائيلية. ما يفضي إلى تخيّل سيناريوهات مركّبة من عدة اتجاهات، بين أسراب إشغال من المسيّرات والصواريخ، والآن دخل معطى الصواريخ الفرط صوتية إلى قلب هذه المعادلة. بالإضافة إلى خيالات إسرائيلية قديمة حول توغل برّي من جنوب لبنان إلى الجليل، عزّزتها صورة السابع من أكتوبر في غلاف غزة.

ماذا عن التوقيت؟

يرتبط التوقيت حكماً بالتصعيد الإسرائيلي في جنوب لبنان، الحالي منه والمُهدد به، إذ ترتفع نبرة تهديدات نتنياهو في رسائله الحربية لمحاولة استغلال وضعية البطة العرجاء في أسابيعها الأخيرة.

كما يسبق توقيت الصاروخ محطتين لا بد لـ”إسرائيل” أن تبقى على أعصابها حيالهما: الرد اليمني على قصف الحُديْدة، والرد الإيراني على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية على أرضها.

وتأتي رسالة الصاروخ لتنزع من نتنياهو مبادرة العودة إلى التصعيد، وتعيده إلى مربّع انتظار القصاص على جريمتين سابقتين. فإذا ذهب بعيداً في الإصرار على التصعيد ضد لبنان واليمن وأدى ذلك إلى حربٍ كارثية للكيان، سيكون قد أطلق الرصاص على قدميه، وسوف يواجه بعد ذلك عقاباً داخلياً عسيراً، مدفوعاً بسببٍ جديد يضاف إلى الأسباب الكثيرة السابقة التي يحاول حتى الآن معالجتها عبر سياسة تقييد النشر. وعند انكشاف الحقائق الصحيحة لأحداث العام الذي مضى من الحرب، سوف تنتظره هناك جرائمه من جهة، وإخفاقاته من الجهة الأخرى.

تبدو الرسائل الحربية من جانب جبهة المقاومة الآن مضبوطةً على ساعة الانتخابات الأميركية، وعلى بوصلةٍ واحدة تتحرك باتجاهٍ هدف واحد، لكن من اتجاهاتٍ مختلفة. لتستعيد بريق المعجزة القائمة منذ أشهر من فخ أرجوحة المعنويات. فماذا عنها؟

فخ الأرجوحة المعنوية

ترغب الرسالة الجديدة أيضاً في بُعدها الاستراتيجي في الاستجابة لنزعة العدوان الطويل عند نتنياهو وافتخاره بالذراع الطولى، وقطعها استباقاً لما سيلي انتخابات أميركا.

وهي تستعيد جزءاً من جمهور القضية الفلسطينية وحركات المقاومة من فخ أرجوحة المعنويات التي تحاول نيران نتنياهو الكثيفة ودعايته الصاخبة إيقاعهم فيها، خصوصاً في الأسابيع القليلة الماضية من خلال التهويل والصراخ وسياسة تقييد النشر على خسائره في الداخل. فالصراخ الكثير سيكون في الداخل الإسرائيلي بعد أن تخفت نيران المعركة وتطفو شظايا الخسائر على وجه بحيرة الدم التي غرق فيها.

أي من خلال الصداقة مع التاريخ والجغرافيا لتحمّل الوقت والخسائر، في وجه قوى أكثر قدرة لكنها ليست على وئام مع هذين المعطيين. الصبر هنا يعمل بهدف حفظ القدرة على النمو الاستراتيجي من دون التورط بمواجهةٍ مبكرة، في لحظةٍ يبحث فيها العالم عن أول فارسٍ يضحي بنفسه في مواجهة إمبراطوريةٍ مجروحة في كرامتها ويتم تحدّي هيمنتها لأول مرة منذ ثلاثة عقود.

فجزء كبير من قدرة المحور قائمة على قابليته لتحمّل الضربات قبل قدرته على توجيهها. وما يمتلكه اليوم من قوة هو ليس نتيجة الجهد الطويل فقط، بل نتيجة الأثمان التي نجح في تحمّلها.

تخيّل أن تقاتل مصارعاً أقل منك قدرةً على توجيه الضربات، لكنه يتجاوزك بأضعافٍ في قدرته على تحمّلها، وبجهازٍ تنفسي أكثر قابلية لتحمّل النزالات الطويلة.

هنا، تفقد القوة الغاشمة قدرتها على الحسم. وتتحوّل إلى عامل إغراء يورط المهاجم باستنزاف جهودٍ غير مجد.

لكن، لنعد قليلاً إلى الوراء، فهناك ما يوازي رسالة اليوم أهميةً ودقة.

قلنا في السابق إن على المستعجلين أن ينتظروا كشف حقيقة إصابة الوحدة 8200 في قاعدة “غليلوت” قرب “تل أبيب”، ومن مصادر إسرائيلية أو غربية. الآن، يبدو مؤكداً أن الوحدة أُصيبت ووقعت فيها خسائر مؤلمة لـ”إسرائيل”.

وفي اجتماع الرسالتين الآن صورةٌ عن مخالب جبهة المقاومة التي تبرع في إخفاء معظمها حتى الآن.

إذ إن جعل حركتك صعبة التوقع، يُعد أحد أبرز أسباب الانتصار في حربٍ يتجهّز لها الجميع منذ سنوات، وتجري في بيئة من العُري الأمني في كثيرٍ من جنباتها، على الضفتين.

مع الصاروخ اليمني، أصبحت لدينا محطتان بارزتان من الإصابات الدقيقة في محط “تل أبيب”. وفيهما معاً فشل تام لمنظومة الدفاع الإسرائيلي في حماية نقاط بالغة الحساسية من أنواع مختلفة من الأسلحة الحاملة للشحنات الحربية (صاروخ فرط صوتي، مسيّرات، صواريخ أخرى). والحديث هذا عن العاصمة ومركز الثقل الاقتصادي والسياسي للكيان، وعن واحدة من أكثر المواقع حساسيةً بعمق 110 كلم عن الحدود اللبنانية.

لكن هناك أيضاً رسالة أخرى يمكن قراءتها من بعيد. إذ أعلنت إيران عن نجاح صاروخ “قائم-100” في وضع القمر الصناعي “جمران-1” في مداره.

القمر والصاروخ يستخدمان لأغراض مدنية واضحة. لكن المعاني العسكرية لامتلاك هذه القدرة كبيرةٌ جداً.

فمع هذا التطور تقول إيران (ومن دون أن تقول) إنها امتلكت القدرة على إيصال شحنةٍ حربية إلى أي مكانٍ على الأرض. ذلك أن الصاروخ الذي يخرج من الغلاف الجوي لا يعود خاضعاً لحسابات المسافة نفسها ضمن الأجواء الأرضية. وهي بذلك تنضم إلى قوى قليلة قادرة على فعل ذلك.

في مجموع هذه الرسائل رغبةٌ واضحة من جانب جبهة المقاومة في تجنّب الحرب الكبرى، لا في إشعالها. وذلك لاعتباراتٍ كثيرة، ورد هنا بعضها فقط. لكن استخدام رسائل القوة في هذه اللحظة الحساسة ضروريٌ جداً لمنع سوء التقدير في واشنطن و”تل أبيب”، إن وصل ترامب أو حتى هاريس.

الآن، إذا غرّد عصفور، أو صاح ديكٌ أو تكلم طفلٌ في أي مكان في العالم. فإنهم جميعاً يتحدثون عن الانتخابات الأميركية. فما يجري في القوة العظمى الخائفة سينعكس على العالم كله. أسابيع قليلة لن تحدث فيها حربٌ موسعة على الأرجح، إنما تصعيدٌ يحاول وصل المقدمات بالنتائج، لفرض الأمر على الرئيس الأميركي الجديد. هكذا يحاول نتنياهو، ويسابقه فولوديمير زيلنيسكي، على جر أميركا إلى حربهما.

أما التهديد الإسرائيلي بالدخول إلى جنوب لبنان وفرض منطقة أمنية فهو يبدو كضربٍ من ضروب الخيال الآن لكن، إن حصل، فسيكون خطوةً انتحارية يقوم بها نتنياهو وتحالفه الجامع بين الصهيونية اليمينية السياسية والصهيونية الدينية.

مصير الجبهة الشمالية مهمٌ جداً الآن ليس فقط لـ”إسرائيل”، بل للولايات المتحدة أيضاً، خصوصاً أنها يمكن أن تشكل مدخلاً إلى حربٍ كبرى يريدها نتنياهو، حتى يستنجد في خضمها بأساطيل أميركا، تحت عنوان عدم تعريض وجود الكيان للخطر.

وهذا ما يفسر نشاط آموس هوكستين مع المسؤولين في “تل أبيب”، حيث يحاول إقناعهم بأن الغرض من توسيع عملية الشمال لن يتحقق، وأن عودة المستوطنين الهاربين من مستوطنات الشمال لا يمكن أن يتم بالحرب، بل إن هذه الأخيرة ستجبر المزيد منهم في عمق فلسطين المحتلة على ترك المنازل والذهاب بعيداً، مع مخاطر كبرى تفوق مسألة الهجرة.

‏يرى الأميركيون الآن، تحديداً الإدارة الديمقراطية، أن أي تصعيد للقتال مع حزب الله لن يؤدي إلا إلى تعميق أزمة القلق الوجودي في “إسرائيل”، وفوضى معالجاتها، ويجلب مخاطر حقيقية على الكيان. هم ببساطة مهتمون بمصلحة “إسرائيل”، ولا يرونها في الحرب.

ومن هذه المخاطر التي يدركها الأميركيون، أن أي خطوة كبرى في الشمال ستعرّض تماسك “جيش” الاحتلال إلى الخطر أيضاً، مع تزايد الاستقالات بين قادته، واختلافه مع نتنياهو حول تقدير المصلحة بخصوص الوضع في غزة، والتمسك بمحور فيلادلفيا، وصولاً إلى احتمالات الحرب مع لبنان.

‏تبدو خيارات نتنياهو وتحالفه صعبة جداً وشديدة المخاطرة، لكن ثقل ما ارتكبه حتى الآن من جرائم، وضخامة ما ينتظره من عقاب داخلي وعالمي، بالإضافة إلى ضيق الوقت عليه قبل الانتخابات الأميركية، كلها معطياتٌ تقوده إلى المزيد من الاستعجال في الهروب إلى الأمام، ما قد يؤدي إلى القضاء على ما حققته “إسرائيل” طوال ثمانين عاماً.

محمد شمس الدين

الميادين

Comments are closed.