توخّى الكثير من نواحي الحذر السائغ والمُبرر، مُستشفعاً بدواعي تمهيد حاذق،بارع يروم توريد أقباس من أقسام أو فصول روايته الأولى “ودران .. سِرُّ آل منصور “الصادرة – بطبعتها الأولى – عن منشورات المصير” تونس عام/2020 في عموم معتملات بصمات ما أنجز وأجاد “خالد شوكات” رحائب اشتغاله بالصحافة العربيّة منذ سن مبكر، فضلاً عن الإسهام النوعي بالكتابة والنشر في كبريات الصحف العربية ، تناوبًا وتواثبًا مع استشرافاته البحثيّة ودراساته الإنسانية الراكزة، المُحكمة والتخصصية في مساعي الدفاع عن حقوق الإنسان وسوالك الأمن والسلام والبيئة والتنمية المستدامة، مرورًا بكتابة الشعر والحفول بتأسيس ورئاسة وعضوية العديد من المنظمات المدنيّة، وشاء أن أرتبط أسمه إلى جنب سطوع سيرته بالمشروع الديمقراطي الوطني والعربي ومناهضته للأنظمة الديكتاتورية والتسلّطية، فيما كان قد شغل عضوية البرلمان وتولى الوزارة في أول حكومة للجمهوريّة الثانية في تونس.
أشبه بتقريظ
—————-
ربما.. وجدنا بعضاً من ضالتنا في سياق تقريب مثل هذا التقديم العام لجوانب وملامح من سيرة الكاتب، سعيًا تفاضليًا لتقييم فحص أنبل وأدق لثيمة موضوع روايته البكر هذه، خاصةً وقد أفاض بالقول بأنها لن تكون الأخيرة -بالتأكيد-، ولم يكف بالتوضيح في مستهل صفحاتها الأولى تحت مظلة ما أسماه “تصدير” عن كيفية كتابة عمله وبهذا الاجتهاد والاجتراح ، مشيراً لندرة الخوض في حيّز الكتابة من وجهة نظر أهل الريف والبادية في عموم مسارات تأريخ الروايّة التونسيّة، حدث معه ذلك وقد تهيّأت له سوانح ظروف وسُبل الخوض بهذا المعترك الإبداعي الصعب “الرواية”، من بعد تردّد مؤقت، أو ربما من باب ومحراب عبارة أبن سينا القائلة “المُستعد للشيء تكفيه أضعف أسبابه” ، متمثلاً بأيام الحجر الذي فرضته عليه وعائلته؛ بل العالم أجمع جائحة الكورونا ابتداء من النصف الثاني من شهر مارس/آذار 2020 بأستعمال جهاز الهاتف الجوّال الآيفون، زاعمًا، متعلّلًا بأنها -ربما- تكون أول رواية ذات خلفيّة تاريخيّة تُكتب بمثل هذه الوسيلة العصرية بدل القلم أو الكمبيوتر-على حدّ ذكره-، ثم لم ينسى بأن يستدرك ليقول في نصّ ذلك التصدير ما نصّه؛ “فالاستغناء عن الوسائل القديمة لا يعني أبدًا الاستغناء عن الماضي والتاريخ، فنحن نحتاج بين الفينة والأخرى إلى العودة إلى القديم حتى نمضي في طريق الجديد بخطى أكثر ثقة وتباتًا وطموحًا” الرواية ص5.
أعاجيب الحظّ
——————
أذن نحن أمام رواية تاريخيّة محضة، تأتت وتناسلت على هيئة حكايات وقصص مُستلّه من ألبوم ذاكرة البوادي التونسيّة المهمشّة والمنسية، أراد منها السارد اختزان واختزال مرحلة مهمة، عصيّة ومصيرية من حياة كفاح الشعب التونسي وسعيه البطولي والمضني، فيما أسماه بـ “انتصار تونس في حرب الجلاء”، وصولًا إلى شرف نيل الاستقلال الكامل من نير المستعمر الفرنسي طوال قرن كامل، وفق ما اختزلته واحتوته وقائع ومناخات وبيئات الرواية منذ هيمنة الحكم العثماني، وما تلاه في متون وعيون وظنون ما أستعرض “خالد” عبر حُسنِ ما ذَكر وأكدّ بخصوص الحظّ الذي لازمه في إنجاز عمله بمكان الحجر “الكوروني”- الذاتي، والذي لم يكن ببعيد عن مسرح أحداث روايته الشيّقة بنهج إتباع نواهل تقطيعاتها الأقرب للحس واللغة السينمائية المحسوبة واليقظة -على حدٍ سواء- في سرد سِير أبطاله من آل منصور خلال توالي ربع القرن شهده زمن الرواية، كما أُجدني أستدعي-مرة أخرى- ما كان يراه الروائي التشيكي “ميلان كونديرا” بخصوص الحظّ على إنه أعجوبة حيّة، ليخالف -بذلك- ما كان قد ذهب إليه الكاتب الارجنتيني “بورخيس” حول استحالة إقحام الحظّ بالنظام الكوني، لكن الأمر بدى مختلفاً بنواحيه الذاتيّة، الروحيّة منها والنفسيّة التي لازمت “شوكات” حين أخذ يوضّح ويسرف بذكر مسرح أحداث روايته الواقع- كما نوهنا- بمسافة لا تبعد عن منزل عائلته “المختارة” المُقام على أرض أجداده منذ عشرات السّنين، التي تقع على ضفاف الوادي الكبير، وادي “ودران” المقدّس عند عرش “نفّات”، متعرفًا بطغيان الجانب الذاتي من حيث الشروع بكتابة نصٍ تاريخيٍ، أو بملازمة تحقيق وثيقة تاريخيّة، في خوالص دقة نواياه وحقيقة مسعاه.
ودران – ماكاندو
——————–
أجد في إسراف الكاتب قبل البدء بدخول عوالم عمله الملحمي هذا، بما يُوسّع عندي من دوائر الظنّ وثقة القناعة بثقل ما أجاد وأبدع، لو تأنّى أكثر ودقق في ثنايا تفاصيل مجرياته المدهشة، الفائقة الأثر والتأثير، مقترنًا بانهماك أرسخ، وأبعد من مجرد الارتهان للتاريخ بحذافيره ، من ناحية بناء قواعد وركائز عمله لشاء لوادي “ودران” بأن يكون الاقتراب لحضور أثر وأهمية بلدة “ماكاندو” تلك التي تناولها ” ماركيز” عبر بوابات واقعيته السحريّة في “مائة عام من العزلة”.
لقد تمرّكز حرص ودقة “خالد شوكات” للحدّ الذي أوصلنا فيه نحو حدود تعريف كامل ودقيق للوادي من الناحية البيئية والجغرافيّة لـ “ودران” على إنها وادٍ غير دائم السيلان، منبعه في الجزائر الشقيقة ومصبّه البحر المتوسط، وتحديدًا في دلتا تقع بين مدينتي المحرس والصخيرة في ولاية صفاقس جنوب البلاد وهو بالتالي يقسّم البلاد التونسية إلى شطرين، كما يحمل أسماء عديدة من بينها وادي “اللّبن” عند عرش “الهمامة” الرواية ص6، بل وغدت بملخص عناوين ذِكرها في أهواء وأجواء هذه الرواية أشبه بـ “يوتوبيا” مَحليّة بحسب سوانح ومساعي ودواعي تدقيق رؤية وخيال الكاتب اليقظ مرهونًا بحتميات واقع نابض وحي حيال ما تلا تلك الواقعة الشنيعة التي أستهدف بها “نزل منصور” أو هكذا سمّى “منصور” نفسه، بطل الرواية-لاحقاً-
مقتل بيدرو
————–
تكمن موجبات قتل منصور للخبير العسكري “بيدرو” الضابط السردينيّ القادم من بلاد النصارى، الساعي لكسب رزقه في بلاد المسلمين، قبل أن يتحوّل إلى قتيل صريع جرت مراسيم دفنه بشكل غير مكتمل في تراب أرض غريبة، في جوهر الاساءة التي تخص الكرامة، والكرامة في قاموس الريف أو البادية تعني الموت، وبسبب حادثة القتل الطارئة تحوّل “منصور”
سليل العائلة الشريفة بجذورها الممتدّة صوب قبيلة عربية نزحت من “نجد” في القرن التاسع، إلى قاتل دافع عن كرامته وفق ما يحمل من معايير واخلاق بدوية”، وبرغم العلاقة الطيبة التي جمعته بالضابط السرديني، والذي كان قد أنهاه بضربة واحدة من خشبة أقتلعها من كرسي نفقت روح الغريب “بيدرو” وحولّت منصور من مشروع ضابط واعد، أو ربما عظيم في المدرسة الحربية إلى هارب مطلوب دم للباي المشير أحمد باشا الذي دعاه الالتحاق بمكتب العلوم الحربية أو المدرسة الحربية -كما كانت تعرف- في يوم من أيام عرش “قبيلته” المجيدة التي طالما اشتهرت بانحيازها للشّق الحسيني في مواجهة الباشوية منذ سنوات الفتنة قبل مائة عام من واقعه قتله لذلك الضابط .
سلالة السّر المتوارث
———————-
في دوامة البحث عن منفذ لخلاص وفي خضم الفوضى التي تلت الحادث المشؤوم ، وجد من يهديه وينصحه للهرب ومغادرة المدينة، ذلك هو زميله الأثير في دفعته بالمدرسة الحربية “علي بن خليفة” الذي سيلزمه ومع من سيتعايش في حلبات الدفاع تونس حرّة، مستقلة من أولاد وأحفاد آل منصور، بعد عذابات رحلة لم تكن سهلة، وصل “مضارب نجع سالم” في ودران، ليستقر بها متزوجاً من فاطمة أبنة الشيخ سالم الذي عزه وأكرمه، بعد فحص ومعرفه أصالة معدنه وقوة بأسه
تبدو عملية تواكب سرد الرواية بتفاصيلها واحدة من أضعف حلقات التقييم والنقد، لذا أكتفينا بحادثة هروب منصور من الشمال إلى الجنوب سباسب القيروان حتى بلوغ ضفاف وادي ودران في صفاقس، لتبدأ تمائم تلك الرحلة وتمتد على مدار قرن كامل تناوب على حمل سرّ منصور أولاد واحفاده بدءً منه أي “منصور الاول” ثم بـ “حمد المجنون” ويليه “عُمر” وثم “منصور الثاني” وبعده “علي” وأخيرا “محمد” الذي حمل السّر وهو في سن الثلاثين وتحمّل أمانة أبائه وأجداده، كما وشهد كل واحدٍ من هؤلاء المؤمنين بصلة أثر البهاليل وما لهم من قدسية وعمق أثر في نفوسهم وقناعات كل واحد منهم، بعد أن شهدوا وعايشوا فترات التحوّلات السياسية والاجتماعية التي شهدتها تونس خلال قرن كامل، برع بأرشفته وتحقيقه سرديًا وتاريخيًا بلغة مهذبة، طيعة وصافية، وذاكرة يقظة وحارة وصادقة الكاتب المبدع “د.خالد شوكت”، والتي قد تأخرنا -إلى حدٍ ما- بالكتابة عن ملحمته الروائية هذه.
حسن عبدالحميد
العراق
Comments are closed.