ثورة تشرين العراقية والثورات الشعبية .. بين النيابة والمباشرة

الديمقراطية كنظام لتنظيم المجتمعات البشرية ووضع أساس عقلاني منطقي عادل للسلطة فيها بما ينقذ البشر من حالة الفوضى والتوحش والهمجية وأشكال التسلط والطغيان ويحفظ كرامتهم وحريتهم وحقوقهم هو حالة إنسانية حضارية متقدمة راقية وصل لها البشر عبر زمن وجهد وتم صياغة شكلها وتفاصيلها ومصطلحها المعبر عنها بادئ ذي بدء في بلاد الاغريق (Greek) او (Greece) اليونانية حيث هناك أطلقت العبارة التي تكونت من مقطعين باللغة الاغريقية (dēmos kratos) ديموس وتعني (الجمهور)، وكراتوس وتعني (حكم). وكان الشكل الاولي لها؛ هو الديمقراطية المباشرة (Direct Democracy) التي يجتمع فيها دورياً الأفراد الأحرار على مستوى المدن والتجمعات السكانية ليقرروا تشريعاتهم وانظمتهم ويختاروا منفذين لها تتم مراقبة أدائهم ومحاسبتهم في الجلسات والاجتماعات التالية دون ان يكون لهؤلاء التنفيذيين أية فرصة للتلاعب بالقرارات أو لتشكليهم طبقة تنفصل عن الناس وترتفع فوقهم.

حصل ذلك قبل بدء التقويم الميلادي بأكثر من خمسة قرون. لم تعرف البشرية ما يسمى بالديمقراطية التمثيلية (Representative democracy) أو النيابية الا في ازمان لاحقة وبعد ان تطور حجم الدول وزيادة تعقيد تفاصيل عملها وتحولها الى المرحلة الإمبراطورية حيث عرفت الديمقراطية التمثيلية اول ما عرفت في الدولة الرومانية واعتبرت حالة بديلة للديمقراطية التي كان مصطلحها قاصراً على الصيغة الأولية المباشرة.

حيث أطلق على هذه الصيغة مصطلح (Psephocracy) سوفقراطية الذي يعني حرفيا حكم الاقتراع. الى جانب الفروق في المصطلحات بين الموضوعين وفي تاريخ واليات وشكل ومظهر كل منهما هناك ايضاً بون شاسع في الجوهر والمضمون والقيمة التي يعبر عنها المصطلحين وذلك بالرغم من سعي الكثيرين الى المساواة بينهما واستبدال احدهما محل الاخر باعتبارهما شكلين من شيء واحد.

ان الديمقراطية تتضمن الحوار والنقاش وتبادل الرأي وبلورته ليأتي التصويت والاقتراع مرحلة نهائية تحسم الأمور فيما السوفقراطية (حكم الصوت والاقتراع) هي مرحلة من مراحل الديمقراطية ولا يمكن اعتبارها بمفردها مفردة صالحة للتعبير عن الديمقراطية بمعناها الشامل.

هكذا ظلت ولاتزال الديمقراطية النيابية وبكل أنواعها وصورها (برلمانية ورئاسية) وفي مختلف الدول نموذج يعاني العديد من الإشكالات مما يضطر الجماهير الى النزول الى الشوارع للتعبير عن غضبها مما يفعل نوابها وممثلوها في السلطة سواء كانوا مجالس نيابية او رؤساء حكومات او رؤساء دول .. شهدنا مواسم ربيع سياسي في الدول وثورات ملونة وحالات من الفوضى وعدم الاستقرار واحياناً السقوط في وحول الدولة الفاشلة.

لقد واجه مفكرون وساسة كثر فكرة الديمقراطية النيابية وعيوبها وسعوا للانتصار لفكرة الديمقراطية المباشرة ومحاولة بلورة صيغ تطبيقية لها تتماشى وزيادة حجم الدول وتعقد اعمالها.

في العراق وبعد العام 2003 نص الدستور الدائم المصادق عليه شعبياً في المادة (1) منه على: جمهورية العراق دولةٌ اتحاديةٌ واحدةٌ مستقلةٌ ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوريٌ نيابيٌ (برلماني) ديمقراطيٌ، وهذا الدستور ضامنٌ لوحدة العراق. ونص في المادة (5) منه على: السيادة للقانون، والشعب مصدر السلطات وشرعيتها، يمارسها بالاقتراع السري العام المباشر وعبر مؤسساته الدستورية.

ويتضح من خلال هذه النصوص الدستورية الأساسية الحاكمة وتطبيقاتها اعتمادنا في العراق على النظام النيابي البرلماني الذي محوره والهيئة الوحيدة المنتخبة والمقترع عليها شعبياً فيه هو البرلمان او مجلس النواب والذي على أساسه تبنى ومنه تخرج كافة مفاصل السلطة (الرئاسات الثلاث، الهيئات المستقلة بما فيها هيئة إدارة الانتخابات والاستفتاءات واجازة الأحزاب وهيئة مراقبة الاعلام … الخ) مما يعني اننا امام تأسيس طبقة سياسية تنفصل شيئا فشيئا عن الشعب وتكون عرضة للفساد والافساد حيث السلطة المطلقة مفسدة مطلقة.

هكذا نجد الشعب يتحول من منتخب لهؤلاء النواب الى ناقم عليهم ومتصادم معهم بعد ان تغولوا عليه وصار يعجز عن استبدالهم لاستخدام سلطتهم في التلاعب بكل شيء. من هنا نجد ان لا سبيل لقطع الطريق امام تشكل مثل هذه الطبقات والتلاعب بالمفاهيم الديمقراطية وبصيغ تطبيقها وتحريفها وتزويرها واضطرار الناس الى التظاهر والمطالبة بإسقاط النظام بين الحين والأخر وصعوبة او استحالة مثل هكذا مسلك يتحدى من خلاله الناس شرعية نظام هم شاركوا بصنعه .

صيغ الديمقراطية المباشرة أيضاً يمكن أن يكون فيها الجواب المناسب والحل لعقدة واشكالات العلاقة بين السلطات المحلية والسلطات المركزية او الاتحادية حين يكون التنفيذيون المنتخبون من قبل الجمهور المحلي عقب اجتماعاتهم وابداء الرأي في القضايا المختلفة (المحلية والوطنية) واقرارهم للتشريعات والأنظمة يكون هؤلاء التنفيذيون المتواصلون مع جمهورهم ممثلين في هيئة سلطة نيابية برلمانية تشكل على المستوى الوطني .

الأفكار في هذا الإطار متنوعة وكثيرة وقابلة للنقاش والبلورة مادامت تدور حول الأصل الذي يحدث تغييرا جوهريا في بنية السلطة وتحويلها من ديمقراطية نيابية الى ديمقراطية مباشرة. من هنا نجد ان من الضروري والاهمية بمكان ان تتضمن مطاليب ثورتنا اليوم بنداً يعتمد تعديل النظام من خلال تعديل مواد الدستور (1 ، 5 … الخ) ليكون نظاماً ديمقراطيا مباشرا بصورة او بأخرى وبدرجة او بأخرى بما يعطي للجماهير دورا في مناقشة وإقرار القضايا في اجتماعات دورية (سنوية مثلا) على مستوى الاحياء والنواحي والمدن ليتولى اشخاص منتخبون نقلها الى مستويات اعلى ومراقبة تطبيقها ليتم مساءلة هؤلاء في الجلسات التالية.

انها فكرة تضعف من دور الساسة والأحزاب من دون الغائها وتعطي دورا فعالا للأفراد وتضمن دورا مقننا للجماهير بدل الاعتماد على الثورات الشعبية كصيغة لمواجهة الخلل والطبقية السياسية وما يحف بهذا الامر من معضلات ومخاطر ومنعطفات حيث الثورات إجراء استثنائ من هنا نجد ان من الضروري والاهمية بمكان ان تتضمن مطاليب ثورتنا اليوم بنداً يعتمد تعديل النظام من خلال تعديل مواد الدستور (1 ، 5 … الخ) ليكون نظاماً ديمقراطيا مباشرا بصورة او بأخرى وبدرجة او بأخرى بما يعطي للجماهير دورا في مناقشة وإقرار القضايا في اجتماعات دورية (سنوية مثلا) على مستوى الاحياء والنواحي والمدن ليتولى اشخاص منتخبون نقلها الى مستويات اعلى ومراقبة تطبيقها ليتم مساءلة هؤلاء في الجلسات التالية.

انها فكرة تضعف من دور الساسة والأحزاب من دون الغائها وتعطي دورا فعالا للأفراد وتضمن دورا مقننا للجماهير بدل الاعتماد على الثورات الشعبية كصيغة لمواجهة الخلل والطبقية السياسية وما يحف بهذا الامر من معضلات ومخاطر ومنعطفات حيث الثورات إجراء استثنائي لا يحبذ تكراره كثيرا وبفواصل زمنية متقاربة.

لقد تم تطبيق صيغ الديمقراطية المباشرة في دول وأنظمة كثيرة معاصرة مما أدى الى استقرارها حيث تطبق هذا النظام مقاطعات وكانتونات سويسرية وأيضا مناطق أخرى في اوربا. نامل أن يكون هذا الامر مدخلا لحل الانسداد في الأفق السياسي والازمة التي يعاني منها عراقنا الحبيب وربما بلدان أخرى في المنطقة والعالم عانت من نقاط ضعف الديمقراطية النيابية وفساد الطبقة السياسية التي يفرزها ذلك النظام .

ونأمل ان يثير هذا الموضوع نقاشاً جادا ينقل الازمة من اطار التفكير بمواضيع حل الحكومة وتعديلها الى اطار التفكير بتعديل الدستور والنظام بما يشعر البعض ان الامر ليس استهدافاً شخصيا وفئويا وحزبيا يدفعه للتخندق ومن الله التوفيق.

الدكتورة بسمة خليل الاوقاتي

أستاذ مساعد علوم سياسية وعلاقات دولية

العراق

Comments are closed.