حياة الماعز .. خطيئة الفرد وثمن الدولة

ضجة كبيرة خلقها فيلم هندي يتحدث عن معاناة رجل هندي جاء للعمل في المملكة العربية السعودية ، بعد التنسيق مع كفيل سعودي يضمن له العمل فيها بكفالته ، حدث هذا عام ١٩٩١ ، في ظرف غير واضح لم يحضر الكفيل لاستقباله في المطار كالمعتاد ، في ذات اللحظة يكون هناك رجل سعودي اخر في المطار بدى وكأنه يبحث عن شخص قادم ولم يلتقيه ، ليأخذ الرجل الهندي ورفيقه بطريقة بدت وكأنها اختطاف ، يضع الاول عند جماعة من رعاة الابل وياخذ الثاني معه ( بطل الفلم ) وهنا يبدأ الصراع : الرجل الهندي لا يصدق ان المكان الذي وعد للعمل به ان يكون في الصحراء والعيش مع الابل والماعز ، والرجل البدوي جاء به لاستغلاله في العمل هنا طالما ان ليس له كفيل وسيجبره على العيش معهم للاستفادة منه في اعماله . لكن اعتراض الرجل الهندي على العيش في مكان لم يكن قد وعد وبه ولا يتناسب مع طموحاته في جمع مبلغ جيد يعيل به عائلته مما يدفعه للتمرد وعدم الانصياح لما يطلب منه ، ويقابل بقسوة الرجل البدوي الذي يحاول اخضاعه لقانون الصحراء مما يضمن له الحصول على عامل يعينه على الاعمال القاسية ، هذا المحور الدرامي الرئيس لحكاية الهندي والرجل البدوي السعودي .
تستطيع السينما تعضيد الايحاءات التي من شأنها تمجيد البطل ، وتكريس الدلالات المتوافقة مع اظهار مظلوميته ، وتضخيم الجزئيات على حساب المعنى الذي يقره المنطق ، وان كان كل ذلك يحصل منافياً للطبيعة واهداف كل سلوك ، بحيث يشعر المتلقي بالكم الهائل من الاضطهاد ( اللامتطقي ) دون ان يسترعي الوضوح ومناقشة تفصيلاته ، فتجده مأخوذاً بصور الصحراء اللامتناهية ، بينما ترعى فيها الماشية ، والبدوي الذي اظهره الفيلم ( جلفاً ) كان يعلم الهندي كيفية حلب الماعز بالاشارة دون تجشم عناء تطبيق الفعل عملياً له ، فقط لغرض ذلك التعضيد الذي ذكرته كي تتسق الرؤيا بمفهوم الاضطهاد الغير مبرر .
طيب …. اود ان اسجل هنا بعض الملاحظات عن الحكاية التي نسج الفيلم حبلها السردي السينمائي . ولست هنا في محل ناقد سينمائي ، لكنه تسجيل لانطباع عن فيلم تحدث عنه الكثيرون بين السلب والايجاب :
١- بعض الافلام التي تتناول قضايا مهمة لها علاقة بشعوب او ديانات او قوميات محددة ، ستثير الجدل حتما ، وتحلل بعض الافكار في الفيلم وتؤول بما لا يقصده الفيلم اصلاً ولا حتى الكاتب ولا المنتج ولا المخرج ، كما في فيلمي ( الالام المسيح و شفرة دافنشي ) لكن تنبثق تلك التأويلات من مزاج عام متنوع التركيب ، ويؤخذ الفيلم بجريرة تلك التأويلات ، التي لا تخلو من توجهات ومآرب سياسية اولا ودينية ثانياً .
٢- في عالم التكنلوجيا الحديثة التي حولت العالم الى ( قرية صغيرة ) لم يعد للحدود الجغرافية والقومية والدينية عائقاً امام الناس للوصول الى ابعد نقطة مبتغاة بالمعرفة او المتعة او الكراهية ، واصبح لعلم التكنلوجيا جيوش وذباب الكتروني ، لا يقاوم ولا يُهش ولا يُنش ، وبالامكان تحويل مسارات فكرية معينة راسخة وورصينة ولها جذور عميقة ، الى مسارات النهاية والسقوط ، بحيث اصبح الانسان يحاسب على خيره وشره وفق هذه المنظومة التي لا حدود لها ( هي ذاتها التي اكتب بها الان وانت تقرأ ) ، ولم يعد للانتماءات الاخرى اي قيمة في حدود تصرف الفرد ، اذ ذابت تلك الثوابت التي من شأنها ان تضع الفرد في منظومة ما ، سواءاً جغرافية او عرقية او دينية ، الفضاء واسع ورحب ومفتوح للجميع ، مما يجعل الانسان المسؤول الاول عن سلوكه في خيره وشره ، ولا يثاب المجتمع على خير الفرد ولا يعاقب على شره ، مما يجعل من الصعب في مكان ان نجلد شعباً كاملاً عقاباً على شر احد ابنائه ( ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) أي : كما لا يحمل عليه وزر غيره ) .
٣- تعرض لنا الافلام قصصاً ، نتابعها كمن يريد معرفة كل شيء ، كذلك الروايات ، نقرئها بشغف ، مذ كانت تتسع اذاننا ونحن صغار لحكايات الجد والجدة ، وافضل تلك الافلام من نشعر انها تحدثنا بصدق ، ونمتعظ اذ نشعر ان ثمة كذب فيها ونهمس باذان بعضنا البعض في صالة العرض الممتلئة بالناس ( شوف الكلاوات ) ونكتم ضحكة عالية لو اطلقناها لسمعنا انواع الشتائم من الحضور الذي يستأنس بعضه بتلك الاكاذيب ، طبعا هنا لا اقصد اكاذيب الفيلم الكوميدي حتما ، بل اقصد تلك الافلام التي تاخذ بيدك بثقة العارف وترشدك لما فيه المتطق والعقل والعاطفة ثم يدس لك كذبة ناعمة لا يجعلك تشعر بها وتنتهي بتصديقها وتحبها وتذرف مشاعر الود والعطف والتضامن معها ، ثمة مشاهد في فيلم ( حياة الماعز ) هي من النوع الذي ذكرته الان ، ويتجلى ذلك واضحاً في بعض المشاهد ، منها :
⁃ مالذي يدعو البدوي للتعامل بكل هذا العنف مع رجلاً جاء به ليساعده في اعماله ؟ – لنقل يستغله وهذا التعبير اجده انسب – تكسير ارجله وذراعه وشق راسه ، وجعله جثة هامدة ! بماذا سيستفيد من هذه الجثة ، ان المبالغة في سلوك البدوي جعلتني اشعر ان الهندي سجين محكوم بالاشغال الشاقة ، فالبدوي ومساعده يريدون الاطاحة به في مطبات هم يصنعونها ، لتتم معاقبته باساليب غاية في القسوة ! ايعقل ان هذا هو الهدف الاساس من جلب الهندي – بل اختطافه – من المطار !؟
⁃ مشهد اجبار الهندي على حلب الشاة وتعرضه الى رفسة الشاة والتي اسقطته ارضاً – ربما كان خائر القوى – هل يعقل انك تريد تعليم شخص عن عمل ما ، لا تفعل الفعل امامه ليتسنى له الفهم ! مالذي يدعو البدوي لتعليم الهندي على حلب الشاة في حركات اليدين ! وبامكانه ان يمسك الشاة ويحلبها امامه لايصال الفكرة .
⁃ مشهد تناطح الاغنام مع بعضها ومحاولة الهندي لفك النزاع بينهما حتى ينتهي الامر بنطح الهندي مرتين من قبل الاغنام المتصارعة وسقوط الهندي مضرجاً بدمه ، هذا المشهد وغيره مشابه له القصد منه تحشيد اكبر عدد من الاسباب للتعاطف مع الهندي واظهار شخصية البدوي السعودي ك جلف شرير قاسي لا يمت للانسانية بايما صلة ، وهذه الافعال تتنافى مع قصدية البدوي للاستفادة من الهندي المسافر لغرض العمل وجني المال لمعيشة اهله هناك .
⁃ مشاهد الصحراء قد اختيرت بعناية فائقة لاضفاء طابع قسوة البيئة على الهندي ، والاستفادة منه في مشاهد الهروب وتكريس القسوة اللامتناهية من الطبيعة وقبلها من البدوي ، فضلاً عن عدم اظهار اي تفصيلة تشي بوجود حياة هناك ، على الاقل لعدد الحيوانات من الابل والماعز والاغنام وعلى ماذا تقتات تلك الحيوانات والمكان مغطى بالرمال فحسب وليس ثمة عشب ظهر في جل المشاهد ما خلا مشهداً واحداً .
⁃ مشاهد ( الفلاش باگ ) للبطل في قريته حيث الماء والخضراء والوجه الحسن ، والمرح مع الاصحاب والسباحة في الانهار يستظلون بفيافي الاشجار الكثيفة ويمرحون بجنان لا نهاية لجمالها، ثم يصحو على لفح الرمال على وجهه .
⁃ مشهد المطار حين وصول الهندي وحديثة المتعثر مع ضابط تاشيرات الدخول ، ينم عن قصدية في تجهيل نظام الطيران في المملكة السعودية ( عني شخصياً سافرت لمعظم الدول الخليجية ، فضلا عن العربية الاخرى ، لم اجد موظف في المطار لا يجيد التحدث باللغة الانگليزية ) وهذا ايضاً اضافة قصدية لجأ اليها الفيلم لتعظيم حجم معاناة الرجل الهندي .
⁃ طعام البدوي ورفيقه .. لم اسمع ( لاني لم ارى ) ان بدوياً كان زاده الخبز والماء ! والا ما نفع هذا القطيع الكبير من الماشية والتي ينعمون بحليبها ويستخرجون منه مشتقاة عديدة ، هذه ايضاً صورة لتعضيد صورة القسوة التي عاناها الرجل الهندي .
⁃ مشهد الهروب .. في الوقت الذي اهتم فيه ( نجيب الهندي ) بلبس ثياب نظيفة وانتعل مداسه الجديد الذي احتفظ به طوال السنين الاربعة وحرص على ان يظهر بمظهر جميل ، نسي ان يخصص من هذا الوقت دقائق لاخذ ( جود ) ماء يعينه في رحلة لها بداية ولا يتوقع لها نهاية ، هذا المشهد ايضاً يصب بقصدية تعظيم المعاناة من خلال لقطات العطش المميت .
⁃ مشهد الهروب ايضاً … اختفاء الدليل الافريقي المفاجأ وغير المفهوم ليبقى نجيب وحيداً تائهاً تعضيداً وتكريساً لصورة المعاناة التي تعرض لها وعاناها نجيب الهندي .
⁃ مشهد الوافدين الهاربين من الكفلاء ، او المطلوبون للقانون … بدى هذا المشهد كوميديا على غير ما اريد له ، اذ ياتي الكفيل لمركز الشرطة ( هكذا بدا لي ) ويتعرف على الوافد الهارب من ( بطشه ) وينهال عليه ضرباً دون وجود لاي رجل شرطة من شانه ان يمنع هذا التصرف ، وفي هذا اشارة الى ان النظام يبيح ذلك . ( في احدى مشاركاتي بمهرجان دبي السينمائي دعاني قريب لي مقيم هناك على وجبة عشاء وضمن احاديثنا قال : الوافد الاجنبي اذا ضاقت به السبل يضطر الى السرقة وهو يعلم انه سيقع بيد الشرطة ، ضحكت وقلت ( شنو هالذكاء ) قال : لانه حين يساق الى السجن سينعم بخدمة كبيرة من طعام لذيذ ونوم هانيء وتعامل انساني طيب ) .
⁃ لايمكن معاقبة شعب ، دين ، مذهب ، قومية ، من جراء سلوك شخصي ، فما حدث للهندي لا يقارن البتة بما حدث ل ١٧٠٠ شاب عراقي قتلوا على ايدي مجموعة من شباب عراقيين ايضاً فقط لانهم يختلفون بالمذهب مع الضحايا ، والقيت جثثهم في النهر وليمة للاسماك ، فهل تعاقب طائفة الجناة بجريرة فعل مجموعة منها ! .

بشير الماجد / سينمائي عراقي

Comments are closed.