لندن (عربي times)
استقبلت الصين شحنات من الغاز الطبيعي المسال (LNG) الروسي في ميناء غامض في الصيف الماضي، معلنةً بذلك تعميق شراكتهما بين “الروبل” و”اليوان”، في مجال الطاقة إلى مستوى غير مسبوق.
وذكرت “فورين بوليسي” أن هذه الخطوة بينما تعد تحولًا لافتًا، فإنها هذه المرة جاءت مدفوعةً ليس بالمصالح الاقتصادية فحسب، بل باعتبارات جيوسياسية بحتة، كما لم تقتصر النتائج المترتبة على هذا التحوّل على سوق الطاقة العالمية، بل تمتد إلى العلاقات الدولية بأكملها؛ إذ يبدو أن “الصداقة بلا حدود” بين موسكو وبكين قد تحولت من شعار إلى واقع مغلق بإحكام لعقود قادمة.
لكن خلف هذا الفعل البسيط يكمن تحوّل إستراتيجي كبير، خصوصًا أن تلك الشحنات جاءت من مشروع “Arctic LNG 2” الذي شُلّ تمامًا بفعل العقوبات الأمريكية منذ اكتماله قبل عامين، وبذلك، كسرت الصين عمليًّا الحصار المفروض على الغاز الروسي، في خطوة تُقرأ كرسالة تحدٍ لواشنطن أكثر مما هي صفقة طاقة.
بدوره وجّه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انتقادات حادة للهند بسبب شرائها للطاقة الروسية، وضغط على أوروبا للتخلي عن الغاز الروسي، لكن الصين بدت غير مبالية، بل ومتحدّية.
وصلت 7 ناقلات على الأقل من الغاز الروسي الخاضع للعقوبات، إلى ميناء صيني لا يحتاج فعليًّا لهذه الشحنات، في ما يراه محللون اختبارًا متعمدًا لمدى استعداد واشنطن لتطبيق “العقوبات الثانوية” على بكين.
من جهته يقول جاك هيرندون من مركز التحليل الأوروبي في واشنطن: “الصين تعتقد أن لديها بطاقة الخروج المجاني من السجن؛ لأن ترامب يريد صفقة تجارية، وهي تراهن على ذلك مؤقتًا”.
ويرى الخبراء أن روسيا بسبب الشتاء ونقص ناقلات الغاز الجليدية، فلن تستطيع تكرار هذه الشحنات حتى الربيع المقبل، لكن إذا تكررت الشحنات في أكثر من ميناء، كما تتوقع ميشال ميدان من معهد أكسفورد، فسيعني ذلك تحوّلًا دائمًا في ميزان الطاقة الآسيوي.
تقول ميدان إن الكميات ليست ضخمة بعد، لكنها “تتراكم ببطء لتصبح مؤثرة”، خصوصًا أن الصين لم تعد تتحفظ كما في الماضي على التعامل مع الدول الخاضعة للعقوبات.
وبالتوازي مع الغاز المسال، أعلن الكرملين خططًا لزيادة صادراته من الغاز إلى الصين عبر خطوط الأنابيب، وعلى رأسها “قوة سيبيريا -2″ المشروع الذي طال انتظاره، وإنشاء هذا الخط يعني أن موسكو تغلق الباب خلفها مع أوروبا وتفتح نافذة واسعة نحو الشرق، لكن الأهم من ذلك، أن التسعير سيكون بـ”الروبل” و”اليوان”، في خطوة ترسّخ الانفصال المالي عن الدولار.
تصف ميدان هذه الخطوة بأنها “رهان على العزلة الوقائية”؛ إذ تؤمِّن الصين إمدادات مستقرة من الغاز بمعزل عن الأسواق العالمية والأسعار المتقلبة، بينما تضمن روسيا مشتريًا دائمًا في زمن المقاطعة الأوروبية؛ فمنذ اندلاع الحرب التجارية مع واشنطن، لم تشترِ الصين أي غاز أمريكي، لكن ذلك لا يقلق ترامب كثيرًا، لأن خططه لزيادة صادرات الغاز الأمريكية تتركز أساسًا على السوق الأوروبية.
ويرى محللون أن الاستفادة الكبرى تعود لموسكو، التي وجدت أخيرًا مشتريًا لبعض إنتاجها العالق من الغاز بعد أن خسرته في أوروبا، وحتى الدول الصديقة، مثل: المجر، بدأت في تنويع مصادرها، وهو ما جعل الصفقات الصينية متنفَّسًا حيويًّا لاقتصاد الطاقة الروسي، ومع أن الكميات لا تزال محدودة، إلَّا أن أثرها المعنوي كبير؛ فهي تبعث برسالة مفادها أن روسيا ليست معزولة بالكامل.
ويعتقد مراقبون أن هذا التقارب يحمل مفارقة لافتة: الصين تضمن أمنها الطاقوي لكنها تفتح الباب لاعتماد مفرط على مصدر واحد.
تقديرات ميدان تشير إلى أنه بحلول 2035 قد يصل اعتماد الصين على الغاز الروسي إلى 40% من إجمالي احتياجاتها، أي أن بكين قد تستبدل “تنويع الطاقة” بـ”تبعية الطاقة”.
حين نضع هذه التطورات إلى جانب قمة بوتين وشي الأخيرة، والتنسيق المتزايد في منظمة شنغهاي والتقارب داخل مجموعة “بريكس”، تبدو الصورة أوضح؛ فالعلاقة الصينية-الروسية لم تعُد مجرد تكتيك سياسي، بل تحالف إستراتيجي طويل الأمد، وإن ظل غير متكافئ.
أما حلم ترامب بإعادة إحياء نهج “كيسنجر المعكوس” لعزل الصين عبر التقارب مع روسيا، فقد انتهى مدفونًا تحت آلاف الأميال من الأنابيب وحمولة ناقلات الغاز العالقة في البحر القطبي.
Comments are closed.