لندن (عربي times)
أعلنت مجموعة السّياحة والسّفر البريطانيّة العملاقة توماس كوك الاثنين إفلاسها وبدء خطوات لإعادة 600 ألف سائح إلى بلدانهم في أكبر عملية من نوعها في بريطانيا منذ الحرب العالمية الثانية. وكانت الشركة الرائدة في مجال السفر والتي انطلقت قبل 178 عاما، تواجه منذ بعض الوقت صعوبات سببها المنافسة من مواقع إلكترونية، كما نسبت أزمتها إلى قلق المسافرين من مسألة بريكست. وحاولت يائسة جمع مئتي مليون جنيه إسترليني (227 مليون يورو، 250 مليون دولار) من مستثمرين لتجنب انهيارها، لكن انتهت المحاولة بإعلان موت الشركة بعد 129 عاما على تأسيسها.
المسؤولون في توماس كوك وجدوا شماعة يعلقون عليها فشلهم، معلنين إفلاس أكبر مجموعة للسياحة والسفر في العالم.. الشماعة هي “بريكست”.
المجموعة التي يعمل فيها 22 ألف شخص حول العالم، ولديها أكثر من 20 مليون زبون، أعلنت إفلاسها، مشيرة إلى أنّها ستدخل في عمليّة “تصفية فوريّة”.
تسبب الخبر بارتدادات سيئة على أسواق المال. وأقلق 600 ألف سائح حول العالم، يجب تأمين إعادتهم إلى بلدانهم، في عملية اعتبرت الأكبر من هذا النوع منذ الحرب العالمية الثانية.
بريكست ولكن..
هل حقا أن “بريكست” السبب في الإفلاس؟ هذا جانب صغير جدا من الدراما، الجانب الآخر، وهو السبب الأول الذي أدى إلى انهيار المجموعة وإعلان إفلاسها، التغير الذي طرأ على صناعة السياحة وسايكولوجية السائح، بتأثير من الإنترنت.
نعم، تكنولوجيا الاتصالات أحدثت انقلابا جذريا في التسوق، بدأ باليوم الذي شرع فيه جيف بيزوس بتسويق الكتب، وانتهاء باليوم الذي بدأت فيه الأحزاب السياسية بتسويق برامجها وأفكارها.
تأثير الإنترنت على السياحة كان أعمق بكثير، لأن هذا التأثير لم يقتصر على أسلوب الحجز والدفع الذي وفرته مواقع مثل؛ هوتيل دوت كوم، بوكينغ دوت كوم وغيرها.
التأثير طال سايكولوجية السائح، الذي أصبح أكثر اطلاعا وتفردا. لم يعد السائح الحديث يرضى أن يكون فردا ضمن قطيع، يحدد له أين يذهب، وماذا يأكل، ومتى ينام ويستيقظ. سائح اليوم يحب الاكتشاف، لم تعد تغريه الفنادق الضخمة، التي بات جل خدماتها يقتصر على رجال الأعمال والسياحة والمؤتمرات.
سائح اليوم يفضل فنادق صغيرة “بوتيك” يشعر فيها بخصوصيته، ويحب أن يكتشف بنفسه طعام البلد الذي يزوره.
مجموعة توماس كوك أصرت على أن تسير عكس التيار، وتسوق لسياحة القطيع، وهذا أضر في النهاية بالمجموعة وأضر بالسياحة في الدول التي تستقبل زبائنها.
عمّا يبحث السائح الذي يحجز عطلته عن طريق توماس كوك؟ فندق يقدم له المبيت، وثلاث وجبات طعام بأرخص الأسعار. طبعا، إلى جانب الشمس والبحر.
رحلة غالبا ما يصفها السائح في ما بعد بـ”رحلة إلى الجحيم”. خطأ توماس كوك أنها أصرّت على تسويق رحلات إلى الجحيم، في عصر يستطيع فيه السائح نشر رأيه حول تجربته فورا وعلى الملأ.
اعترف المسؤولون في المجموعة أن الإنترنت أضرت بهم، ولكنهم لم يقولوا كيف حدث ذلك، ببساطة لأن ذلك سيحملهم المسؤولية، ولو معنويا، عن الفشل الذي انتهى بإعلان التصفية والإفلاس.
لقد قضت الإنترنت على سياحة الفقراء والعاطلين عن العمل، الجماعية. يمكن للسائح اليوم أن يزور البلد، ويتجول في الأزقة، ويدخل المطاعم والبارات والمقاهي، افتراضيا. والأهم يمكنه أن يتواصل مع أشخاص سبقوه إلى هناك يستأنس بآرائهم، قبل أن يتخذ خطوته التالية.
سياح عالقون
600 ألف سائح من أنحاء أوروبا تعرقلت خطط عطلهم في أماكن مختلفة
150 ألف سائح بريطاني عالقون في الخارج
140 ألف ألماني و10 آلاف من الفرنسيين
35 ألفا من الدول الاسكندنافية و10 آلاف من هولندا وبلجيكا
15 ألفا من السياح المتعاملين مع توماس كوك عالقون في قبرص
50 ألفا عدد السياح العالقين في اليونان بينهم 22 ألفا في جزيرة كريت
4500 ألف سائح حجزوا مع توماس كوك ينتظرون في تونس و21 ألف مسافر في تركيا
200 سائح عالقون في فندق تابع لشركة توماس كوك للسياحة في صقلية
“نقدم لك أكثر العطلات متعة في العالم، نعتني بكل شيء من البداية إلى النهاية. ليس على زبائننا فعل شيء سوى أن يستمتعوا بوقت طيب”.
هكذا روجت توماس كوك لنفسها.. تهتم بكل شيء، وهو ما بات مسافر اليوم، الذي يبحث عن الإثارة والاكتشاف، ينفر منه.
إلى جانب المستثمرين وأصحاب الأسهم والزبائن، الذين تضرروا من إفلاس المجموعة، تظل الدول التي تعتمد على سياحة الفقراء الأوروبيين أكبر الخاسرين.
ثلاث دول عربية تبرز بشكل خاص من بين الجهات السياحية المتضررة، هي مصر وتونس والمغرب. مستحقات توماس كوك للفنادق التونسية وحدها تتجاوز 70 مليون يورو.
من الأفضل للخاسرين، أن يتوقفوا فورا عن تقريع النفس، أو البحث عن جهة يوجهون لها اللوم. قبول الخسارة هو أول خطوة للربح.
يجب أن نقبل حقيقة أن السياحة الجماعية هي شيء من الماضي، وإن وجدت، هي سياحة الأميين والفقراء. أجيال عصر الإنترنت تبحث عن الإثارة وعن الاكتشاف والتفرد. الشمس والبحر لم يعودا من عناصر الجذب الأولى، كذلك أيضا هي أطلال وآثار الماضي.
عن أي شيء إذا يبحث سائح اليوم؟
متعة الاكتشاف، في كل شيء، التسوق والمطاعم والبارات والمسارح وصالات العرض والخدمات الصحية والرياضة والحياة البرية والصيد البري والبحري.. باختصار، السياحة متعة اكتشاف الآخرين، التي لا توفرها السياحة الجماعية.
هذا النوع من السياحة يحتاج إلى توفير بيئة خاصة، تبدأ بالأمن وتنتهي بقبول الآخر واحترام التنوع الثقافي وحرية الاستثمار والانفتاح.
عصر جديد
العوامل التي أدت إلى نجاح مجموعة توماس كوك وسيادتها عالم السياحة على مدى عقود طويلة انتهت. عرف توماس كوك، المولود في إنكلترا عام 1808، طفولة فقيرة. دخل المدرسة في سن العاشرة، واشتغل بعدها بائعا للكتب.
أول رحلة جماعية نظمها كانت عام 1841، نقل مشجعين بالقطار بين مدينتي ليستر ولافبرا، تلتها رحلات بالسفن البخارية، وأخرى بالقطار، وفي عام 1872 نظم رحلة حول العالم قطعت أربعين ألف كيلومتر، ودامت 222 يوما، لتتتالى بعدها الرحلات الجماعية بين دول أوروبية وأميركا. واختار الأقصر في مصر لتكون أول مقصد لرحلاته الجماعية في بلد عربي عام 1884، تضمنت الرحلة جولة عبر النيل.
وقّعت شركته عقدا لنقل حملة الجنرال غوردون إلى السودان عام 1884 حيث نقل أحد عشر ألف جندي بريطاني وسبعة آلاف جندي مصري. وظلت الشركة السياحية التي أسسها توماس كوك وابنه عام 1871 مملوكة للعائلة إلى غاية عام 1928.
مات رائد السياحة العالمية توماس كوك عام 1892. بعد 21 عاما من النجاحات الاقتصادية، واليوم بعد رحيله بـ127 عاما يعلن موت المجموعة.
ما تميز به المؤسس قدرته على معرفة ماذا تريد الأسواق، لتنهار المؤسسة اليوم نتيجة لفشل الإدارة في متابعة اتجاهات السوق، وعجزها عن ترجمة ذلك إلى قرارات.
انهيار توماس كوك يؤكد انتصار مفهوم جديد للسياحة، وآلية جديدة لتسويق البلاد سياحيا. إن أردنا أن نكون جزءا من هذه الصناعة، يجب أن نبدأ بتوجيه سؤال لأنفسنا: ماذا لدينا نقدمه للسائح إلى جانب الشمس والبحر وأطلال الماضي وحسن الضيافة؟
Comments are closed.