جورج حبش… في الذاكرة الوطنية

للحكيم في الذاكرة مكانة خاصة، حيث اقترن اسمه منذ النصف الثاني من القرن المنصرم بالحركات الثورية في الشرق الأوسط، التي بدأت معظمها فروعا لتنظيمه القومي، الذي أسسه في مطلع الخمسينيات، وقد تحول مع مرور الأيام إلى مرجعية فكرية وسياسية وأخلاقية.. والحركة الوطنية التقدمية العمانية التي بدأت فرعا من فروع حركة القوميين العرب في الخليج العربي، جزء من تراثه النضالي، الفكري والسياسي.. ويقال بعد خروجه من السجن سنة 1969 زار مدينة حوف اليمنية المحاذية للحدود العمانية، معقل الجبهة الشعبية لتحرير عمان حينها؛ ولست بصدد تناول كل تلك الروابط بشكل تفصيلي؛ ويهمني فقط ان أشير إلى نقطتين مهمتين تعبران عن عمق العلاقات التاريخية:
النقطة الأولى: عندما طرح ما عرف بالبرنامج المرحلي سنة 1974 الذي تشكلت على نقيضة الجبهة الرافضة للحلول الاستسلامية «جبهة الرفض» في الساحة الفلسطينية بقيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، انحازت الثورة العمانية لهذا الموقف، وفي الذكرى العاشرة لانطلاقتها ومن على صفحات مجلة «9 يونيو» الناطقة بلسانها أشاد بموقفها الثوري قائلا: «إن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تبدي امتنانها العميق للموقف الثوري الجذري الذي اتخذته الجبهة الشعبية لتحرير عمان إزاء قضية التسوية السياسية التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية تصفية نهائية، وإن السعادة الحقيقية غمرتنا نتيجة ذلك الموقف الثوري الشجاع».

والنقطة الثانية: عندما تعرض لفالج صحي في بداية الثمانينيات بعثت طالبات مدارس الثورة برسالة إلى زوجته ورفيقة دربه في عملية تضامنية وعاطفية تقديرا لدوره التاريخي. وبعد التحرر من قيود العمل الحزبي والتنظيمي بكل أثقاله أعطي حيزا للزيارات العامة. وفي يونيو 2003 تقريبا توجهت إلى دمشق عبر بيروت، محملا بالأشواق والإعجاب لهذا القائد الثوري الكبير، الذي ملأ الدنيا ضجيجا وصخبا.. ولم يكن الوصول إليه صعبا، فالرجل معروف ويمارس نشاطه بشكل يومي وعلني. ومن إحدى الشوارع الفرعية في حي المزرعة تسبق رائحة المكان والنفس الثوري وبعد بضعة أمتار يقابلك مبنى متواضع ببابه الخشبي القديم، ومنه إلى ممر صغير على جانبه الأيمن غرفة ضيقة جدرانها مغطاة بصور الشهداء، وديع حداد وأبوعلي مصطفى وغسان كنفاني وشادية أبوغزالة وغيرهم وفي الجانب الآخر صور لقادة ثوريين عالميين. يستقبلك شابان في نهاية العشرينيات دون استهجان أو محاذير مع يقظه ونباهة وبجوارهم بنادق الكلاشنكوف الروسية الصنع مرصوصة بإتقان. ويرجع ذلك على ما أعتقد لسببين رئيسيين، السبب الأول: طبيعة التربية الثورية والأخلاقية لأعضاء الجبهة وكوادرها. والسبب الثاني: يبدو الأمر مألوفا بالنسبة لهم فالرجل أشبه بالمكان المقدس عند أصحاب الأديان السماوية، حيث يحج إليه الثوريون من كل أصقاع الأرض، ولم يكن مستغربا أن يأتي زائرا من أقصى الجنوب الشرقي للجزيرة العربية. ولم تمض دقائق حتى يخرج رجل في نهاية الستينيات من العمر كان نحيل الجسم متزنا واثق الخطى، من دون أن يلتفت إلينا.. وبعد خطوتين أو ثلاث خطوات استدار للخلف؛ ويبدو أن نبرة الصوت واللكنة استوقفه. مد يده مصافحا ومرحبا معا؛ بادره أحدهم برغبتي؛ ومن دون تفكير أجاب: الحكيم مسافر الآن، ويمكنك مصافحته عند الخروج؛ وأمام إلحاحي غاب دقائق ثم رجع متسائلا: من أقل له؛ أخبرته، وأردف: عبر من؟ أجبت مبتسما، لست رسولا، ولا مبعوثا، ولا ممثلا لأحد؛ تراجع خطوتين للخلف، مشيرا إليّ بالدخول وكأنه أخذ الموافقة، فتح الباب للخلف قليلا واختفى.. وبعد ثوان تجد نفسك وجها لوجه مع واحد من أهم رموز العمل الثوري العربي والعالمي في القرن العشرين.. كانت الغرفة صغيرة تتوسطها طاولة قديمة بنية اللون، وخلفها كرسي متهالك؛ وعليها بعض الكتب من الإصدارات الحديثة، وعلى جانبها الأيسر علاقة خشبية تتدلى منها عصا بنية غامقة وبجانبها الأيمن يقف رجل في منتصف السبعينيات كأنه عمود صخري صلب نحته الزمن؛ وسيم ذو ملامح ملائكية، تبدو عليه هالة ووقار وكاريزما ساحرة.. يلبس قميصا أبيض قصير الأكمام بخطوط داكنة وبنطلون كاكي متناسق ينم عن ذوق رفيع. رفع يده اليسرى بشكل نصف دائري ثم طواها على عنقي بعطف أبوي حنون، بادرني بالسؤال عن أحوالي، وبعد حوار دافئ؛ رفع يده اليسرى إلى السماء ومررها من اليمين إلى اليسار بطريقة عجيبة؛ وقال بصوت جهوري كيف أوضاع الحركة الوطنية، أجبته على طريقتي. فالرجل ليس بحاجة لمن يعرّفه بأوضاع الحركة الوطنية العربية.. وبلغة إيمانية واثقة وحاسمة قال: هذه مرحلة عابرة ومؤقته وأن الأمة العربية تموج بالتناقضات ولا يستطيع أحد خداع الجماهير العربية للأبد وحتما ستنتصر مهما طال الزمن. طلب مني الاقتراب قليلا وكرر ما فعله في المرة الأولى.. وأضاف لماذا لم تتلفن لي من قبل يا ابني؟ ضروري تزورني مرة أخرى. بدي أسمع منك… يا الله؛ لم تتسع الدنيا فرحتي وتذكرت قول الشافعي كلما زاد علمك زاد تواضعك، فالرجل تحرر من النرجسية الذاتية وعقلية البورجوازية الصغيرة ونفسيتها، خرجت مسرعا إلى أقرب مقهى شعبي؛ كنت حينها أدور في مدارات أخرى، ولم يخطر بخلدي تدوين كل التفاصيل، وكلما أتذكر ذلك اللقاء أشعر باعتزاز كبير وأني أنجزت شيئا مهما في حياتي افخر به إلى الأبد.

مسعود احمد
كاتب عماني

Comments are closed.