أيام في عدن ويومان في المخاء

الوطن هو المكان الطبيعي الذي يفترض أن يعيش فيه المرء الجزء الأكبر من حياته إن لم يكن كلها، ويكون المقام خارجه لظروف استثنائية تدفعه إلى المغادرة، ولذا كان مثيراً لحزني وباعثاً للسخرية المريرة عند وصولي إلى عدن أن تكرر سؤال سمعته من كثيرين “ما الذي جاء بك؟”. وما عاد الناس يحسنون الظن بأن أي قادر على العيش خارج اليمن يمكن أن يرغب أو أن يفكر بالعودة إلى وطنه إلا لهدف محدد ينجزه في أقرب الآجال ليغادر بعده. وصار المواطنون المقيمون يرون في ذلك مجرد زيارة لن تطول مدتها، ولا بد أن سبب ذلك هو الواقع المعيشي شديد الصعوبة الذي يجعل من السؤال عتاباً لمن تركوهم يواجهون المصاعب اليومية بمفردهم وسخرية من القادم كعابر.

هذا الشعور المرير هو نتاج إحباط تمتلئ به النفوس داخل مدينة عدن على وجه الخصوص، التي يعيش فيها الناس في ظل ظروف قاسية، وهو تعبير عن تراكم الإهمال الذي أدى إلى انهيار الخدمات في كل القطاعات، ثم تعدد مراكز النفوذ وشحت الموارد وتضاعف عدد السكان وما يجري من اعتداءات على عقارات الدولة. وإذا ما أضفنا إلى كل ذلك الفوضى السياسية وعدم وحدة القرار في قمة هرم السلطة، فإن النتيجة الحتمية المتوقعة هي فقدان ثقة المواطن بها، وهي أخطر مراحل انهيار مكانة السلطة الحاكمة عند المواطن بغض النظر عن مسماها.

ما تعانيه عدن مثير للأسى، ومن المؤكد أن معاناة أعظم وغير مرئية يرزح تحت قسوتها أبناء المحافظات الأخرى في أبين ولحج والضالع وتعز والحديدة وغيرها، والناس دوماً ما يعقدون المقارنة بين أوضاعهم المعيشية والخدماتية الحالية، وما كانت عليه قبل رحيل البريطانيين عام 1967 ثم قبل الوحدة عام 1990، وقبل حرب صيف عام 1994، ثم قبل حرب 2015، وهي مقارنات تصب في كل الأحوال لصالح الحقبة الأسبق. وذاك أمر اعتادت عليه وتعبر عنه كل الشعوب حين تتجه بغضبها نحو الحاكم أو الحكام الحاليين.

تمكنت من زيارة أماكن كثيرة داخل عدن سيراً على الأقدام، وأكثر ما شد انتباهي العشوائية في كل مناحي الحياة، وهذا انعكاس لانطباعاتي الشخصية وليس انتقاداً لمن يديرونها حالياً لأنهم ورثوا أعباء مهولة وخدمات منهارة وأمناً موزعاً على قوى متعددة ومتنافسة، بينما السلطة المحلية المعنية لا تمتلك من الموارد ما يعينها على إصلاح العبث وما أفسد الدهر خلال سنوات طويلة مضت كانت كفيلة بجعلها واحدة من أجمل مدن المنطقة. وأشك أن أحداً من المسؤولين تجول في أحياء أي مدينة يمنية كما يفعلون في رحلاتهم الخارجية الكثيرة.

إن الصعوبات التي تواجه أي عملية إصلاح تحتاج إليها عدن لن يكتب لها النجاح بالمسكنات والوعود الوهمية، بل ستحتاج إلى عملية جراحية لا يجرؤ “مجلس القيادة الرئاسي” من الاقتراب منها أو التفكير فيها، لأنها تُواجه عراقيل كثيرة تستدعي أولاً إرادة سياسية غير متوافرة، لأن “المجلس” نفسه لا يتوقف عن الشكوى من الأوضاع لتبرئة ساحته من المسؤولية. وعلى رغم شح الموارد المتوافرة مقارنة بالاحتياجات، فإن الحل لا يكون بمزيد من الوعود والأوهام، بل بالبدء بوقف مصاريف الترفيه والرحلات الخارجية غير الضرورية، وكذا ضرب المثل بالتقشف والتزام قواعد صارمة للإنفاق والمحاسبة والرقابة.

من المؤسف أن القضايا السياسية المثيرة للجدل تلقي بظلال قاتمة على الاهتمام بالمدينة، وتنقل الأنظار عن معاناة الناس نحو نقاشات عقيمة، وإذا استمر الحال في خلط السياسة بالإدارة فمن المؤكد استمرار انهيار الخدمات. وجاء النموذج الفاضح عندما صرح رئيس مجلس القيادة الرئاسي بعدالة القضية الجنوبية مع تأجيل النقاش حولها إلى مرحلة ما بعد “استعادة الدولة” و”إنهاء الانقلاب”، مما فجر رد فعل من قيادات المجلس الانتقالي منتقدة هذه التصريحات. والواقع أن غموض أسلوب إدارة “المجلس” يفاقم تعقيد الأوضاع السياسية ويضع علامات استفهام حول الأسباب الحقيقية للتلكؤ في إصدار اللوائح التي تنظم عمله وعمل الهيئات التي تشكلت بموجب “الإعلان” في 7 أبريل (نيسان) 2022.

زيارة المخاء

كانت فرصة وجودي في عدن مناسبة للوصول إلى مدينة المخاء الواقعة على الساحل الغربي لليمن، وكنت حريصاً على الاستماع إلى ما يدور وأن أشاهد ما يحدث فيها. وعلى رغم أن الطريق الرابط الساحلي الذي يربط عدن بالمخاء لا يزيد كثيراً على 200 كيلومتر، فإنه سيئ للغاية ويستغرق ما يقارب أربع ساعات، وواضح أن الاهتمام بصيانته معدوم إلا جزءاً صغيراً لا يتجاوز 27 كيلومتراً تم إنجازه بتمويل إماراتي، وبمساعي عضو مجلس القيادة الرئاسي طارق صالح الذي التقيته بعد وصولي.

خرجت مع صديقي الصحافي نبيل الصوفي لزيارة المدينة القديمة، والذي صار خبيراً في تاريخ المخاء وكل ما يتعلق بمجتمعها وبتراثها المعماري. وشعرت بالحسرة حين رأيت شاهدة آثار مبان تاريخية متهالكة تحتاج إلى صيانة عاجلة، ثم مررنا على موقع المطار بجوار الميناء وتعرفت إلى أعمال شق وتعبيد طريق “الكدحة”.

والواقع أن زيارة المخاء تستدعي إلى الذاكرة رسالة الأستاذ أحمد محمد نعمان إلى زميله الرئيس القاضي عبدالرحمن الأرياني عام 1972، عبر فيها عن حزنه وألمه لما شاهده في المدينة من إهمال ودمار وصفه بـ”المتعمد”. وواضح أن الحكومات المتعاقبة لم تهتم بهذه المدينة التي تختزن تاريخاً عظيماً، ولا يعلم اليمنيون عن تراثها وما قدمه ميناؤها على مدى عقود طويلة. كما من المؤسف أن الوزراء يتهربون من زيارتها على رغم موقعها المهم وإمكانية أن تصبح ميناء مهماً بعد تعميقه. وعليهم أن يعلموا أيضاً أنه سيكون من السهل على سكان تعز السفر من المطار الجميل الذي تجري الاستعدادات لافتتاحه ليربطهم بالعالم عبر طريق “الكدحة”، الذي يتجنب الحصار اللاإنساني الذي يصر الحوثيون على فرضه عقاباً وامتهاناً للمواطنين… وستبقى أزمة الكهرباء بحاجة إلى استثمار عاجل لأن المحطة الحالية متهالكة على رغم أن إصلاحها سيخدم كل تعز.

غادرت المخاء حزيناً ومتفائلاً لأنه من الممكن استعادة ألقها ومجدها التاريخي بأقل الإمكانات، وتحويلها إلى منطقة جذب سياحي واستثماري. ومن الحق القول إن إداراتها الحالية وضعت السياسة جانباً وتفرغت بجد ملحوظ وبرغبة واضحة لخدمة الناس وتحسين حياتهم وتأمين الخدمات فيها، وكل ذلك ممكن إذا قررت الحكومة مساعدتها وعدم تجاهل احتياجات المدينة، واقتنعت بأنها جزء من اليمن.

مصطفى النعمان

دبلوماسي / اليمن

Comments are closed.