في الذكرى الأولى للهجوم الروسي على أوكرانيا: الأثر في أسواق الطاقة

عادت أسعار النفط والغاز لما كانت عليه تقريباً قبل الهجوم الروسي على أوكرانيا، بعد أن ارتفعت لأعلى مستوى لها منذ عام2014، كما ارتفعت أسعار الغاز في الأسواق الفورية إلى أعلى مستوى لها تاريخياً.

وصادف يوم الجمعة الماضي الذكرى السنوية الأولى للحرب الروسية التي نتجت منها زلازل عدة في أسواق الطاقة العالمية، ونتيجتها تغير تاريخي في اتجاهات التجارة العالمية في أسواق الطاقة.
الهجوم نفسه لم يؤثر في أسواق الطاقة، ولكن تخوف بعض البنوك والشركات الغربية من المساءلة القانونية جعلها تتوقف عن التعامل مع النفط والغاز الروسيين، وفي الوقت نفسه أدركت الحكومة الروسية أن عليها تحويل جزء من صادراتها النفطية والغازية إلى دول أخرى وبخاصة في آسيا، والمشكلة أن أوروبا هي السوق الطبيعية للنفط والغاز الروسيين بسبب قصر المسافة بين روسيا وأوروبا، مقارنة بالمسافة بين روسيا والدول الآسيوية مثل الصين والهند وغيرها، ولهذا فإن التحول إلى آسيا يعني ارتفاع كلف الشحن، ولا يمكن للنفط الروسي أن ينافس في آسيا إلا إذا تحملت الشركات الروسية كلف الشحن مما يعني انخفاض الأسعار.

المشكلة الكبرى التي واجهت روسيا أن عدد ناقلات النفط التي يمكن استخدامها قليل ومن ثم ارتفعت أجور الشحن بشكل كبير، وحتى تقوم الشركات الآسيوية بشراء نفط أورال الروسي يجب أن يكون سعره أقل من أسعار النفط الأخرى، مما أدى إلى انخفاض أسعار النفط الروسي، إذ يتم بيع “خام أورال” في الموانئ الروسية حيث وصل الخصم إلى نحو 40 دولاراً للبرميل، ودليل ذلك أن نفط المناطق الشرقية القريبة من اليابان يباع لليابان والمناطق القريبة بالأسعار العالمية.

ثم جاءت العقوبات الاقتصادية والحظر الأوروبي والأميركي على واردات النفط الروسية والسقف السعري، فأقنعت موسكو بأنه يجب البحث عن أسواق جديدة من جهة، وأجبرتها على البحث عن أسواق في أماكن بعيدة مما يعني استمرار الخصومات على النفط الروسي، وهنا لا بد من التأكيد على أن التحول في اتجاهات النفط والغاز الروسيين جاء من الطرفين وليس من طرف واحد، وأن روسيا منذ عام 2014 عندما احتلت شبه جزيرة القرم التابعة لأوكرانيا ثم ضمتها لروسيا والعقوبات الاقتصادية التي تلتها، تحاول إيجاد أسواق جديدة لنفطها وغازها، كما يجب التأكيد على أن السقف السعري لا أثر له في صادرات روسيا إطلاقاً، وما تقوله وزيرة الخزانة الأميركية عن الأثر الكبير له لا دليل عليه البتة.

وقبل تلخيص أهم نتائج الهجوم الروسي على أوكرانيا وما تبعه من عقوبات لا بد من التذكير بأمرين، الأول أن أزمة الطاقة كانت موجودة في أوروبا قبل الهجوم بأشهر لأمور تتعلق بالسياسات الأوروبية ولا علاقة لها لا بروسيا ولا بأوكرانيا، والثاني أن الولايات المتحدة حاولت خلال السنوات الأخيرة وقف خط “نورد ستريم 2” الذي يربط روسيا بألمانيا مباشرة عبر بحر البلطيق، لأنها ترى أن زيادة اعتماد أوروبا على الغاز الروسي يهدد أمن القارة العجوز التي تقع تحت الحماية العسكرية الأميركية.

من ناحية أخرى حاولت الولايات المتحدة فتح أسواق جديدة لغازها المسال على حساب الغاز الروسي، ونجحت في ذلك نجاحاً باهراً، وهنا أهم نتائج الهجوم الروسي وما تبعه من عقوبات اقتصادية وحظر.

النفط

رتفعت أسعار النفط إلى أعلى مستوى لها منذ عام 2014 بسبب توقعات انخفاض الصادرات الروسية بسبب عقوبات محتملة، وعلى إثر ذلك أمر الرئيس الأميركي جو بايدن بسحب 180 مليون برميل من المخزون النفطي الإستراتيجي على مدى النصف الثاني من عام 2022، إضافة إلى قيام وكالة الطاقة الدولية بتعليق شروط الاحتفاظ بمخزون يكفي لمدة 90 يوماً من الواردات، وطالبت أعضاءها بالسحب من مخزوناتهم، كما قامت دول “أوبك+” بزيادات محدودة للإنتاج، وطوال هذه الفترة بيع نفط أورال الروسي بخصومات كبيرة للتعويض عن كلف الشحن إلى آسيا وبخصومات إضافية لضمان سوق له، إلا أن أسعار النفط بدأت بالانخفاض منذ شهر مايو (أيار) الماضي من نحو 130 دولاراً إلى 80 دولاراً للبرميل، وهذا الانخفاض سببه زيادة المعروض بسبب السحب من المخزونات الاستراتيجية وزيادة “أوبك” للإنتاج، وعدم انخفاض إنتاج روسيا كما توقع بعضهم، إضافة إلى انخفاض معدلات نمو الطلب العالمي على النفط مقارنة بما كان متوقعاً، وجاء انخفاض معدلات نمو الطلب بسبب ارتفاع أسعار النفط من جهة وارتفاع الدولار الأميركي الذي يسعر به النفط من جهة أخرى، وكانت أهم نتيجة لهذه التطورات هي تغيير ضخم في اتجاهات التجارة الدولية بسبب تحول النفط الروسي من أوروبا لآسيا، وتحول النفط الخليجي والأفريقي من آسيا إلى أوروبا، وهو أمر رفع كلف الشحن وخفّض كفاءة السوق. وتشير البيانات إلى أن الهند رفعت وارداتها النفطية من روسيا من واحد في المئة في ديسمبر (كانون الأول) 2021 إلى 21 في المئة خلال ديسمبر 2022 وهذه الحصة في ازدياد، كما تشير إلى ارتفاع واردات الصين من روسيا رسمياً خلال الأشهر الأولى من الحرب، ولكنها انخفضت في ما بعد، وكلمة السر هنا هي “رسمياً”، لأن الصين تستورد النفط الروسي من أطراف أخرى من جهة، ومن السوق السوداء من جهة أخرى، وتشير البيانات إلى أن صادرات روسيا غير معروفة الوجهة ارتفعت من نحو 50 ألف برميل يومياً صيف العام الماضي إلى نحو 900 ألف برميل حالياً، ومن أهم النتائج أيضاً أن الصين تمكنت من ملء مخزوناتها النفطية التجارية والإستراتيجية، ليس فقط بسبب حصولها على النفط الروسي الرخيص بشكل مباشر أو غير مباشر من طريق دول أخرى، ولكن أيضاً بسبب إغلاقات الصين نتيجة فيروس كورونا.

إذاً من أهم نتائج الحرب والوضع العام خلال هذه الفترة هو انخفاض مخزون النفط الإستراتيجي الأميركي بأكثر من 220 مليون برميل، بينما ارتفعت مخزونات الصين بأكثر من 300 مليون برميل، وارتفاع المخزون الصيني سيمنع أسعار النفط من الارتفاع بشكل كبير مستقبلاً، لأن الصين ستسحب من المخزون الإستراتيجي مع ارتفاع أسعار النفط، وهذا يقودنا إلى نتيجة أخرى وهي أن خيارات “أوبك+” في التأثير في أسعار النفط محدودة، لأن الصين أصبحت قوة سوقية كبيرة تستطيع التأثير في أسعار النفط، أما بالنسبة إلى روسيا فإن من أهم النتائج أنها لم تستطع العودة بإنتاجها، على رغم الزيادات الأخيرة، لمستويات ما قبل كورونا.

 الغاز

كما هي الحال في أسواق النفط ارتفعت أسعار الغاز في الأسواق العالمية وبخاصة في أوروبا، وكان ارتفاع أسعار الغاز في الأسواق الفورية في أوروبا كبيراً لدرجة أنه ارتفع لمستويات تاريخية، كما ارتفعت أسعار الغاز المسال إلى مستويات تاريخية لم يتوقعها حتى الضالعون بهذه الأمور، إلا أنها انهارت بسرعة بسبب وفرة المعروض وانخفاض الطلب على الغاز.

وانخفاض الطلب على الغاز من التجارب التي يجب تذكرها في أدبيات اقتصاديات الطاقة، إذ قامت الدول الأوروبية بما لم يكن متوقعاً من ناحيتين، الأولى العودة للفحم على رغم ضجيجها المستمر المتعلق بالتغير المناخي، والثانية أنها أجبرت شعوبها على التقشف والترشيد والقبول بمستوى رفاه أقل، ولا شك في أن ارتفاع أسعار الغاز والكهرباء والوقود لعب دوراً لا يستهان به في خفض الطلب على الغاز، وأكبر نتيجة للحرب في مجال الغاز هو تحول أوروبا من الاعتماد على الغاز الروسي إلى الاعتماد على واردات الغاز الأميركي المسال، وإذا أردنا أن نختار أهم حدث نتج من الحرب في أسواق الطاقة فهو هذا التحول الذي نتج من ثورة “الصخري” الأميركية، فصادرات روسيا من الغاز إلى أوروبا انخفضت إلى أقل من الخمس، بينما ارتفع اعتماد أوروبا على الغاز الأميركي من نحو خمسة في المئة من إجمال واردات الغاز إلى 42 في المئة، كما زاد اعتماد أوروبا على الغاز النرويجي.

ختاماً، كان من أهم آثار الحرب في أسواق الطاقة هو قيام كثير من الدول، وبخاصة الأوروبية، بتقديم دعم مالي لشعوبها للتخفيف من آثار ارتفاع أسعار الطاقة، إذ قدمت هذه الدول إعانات بمئات المليارات من الدولارات للوقود الحفوري، وهي من حارب الوقود الأحفوري تاريخياً وحارب إعانات الوقود الأحفوري، والزمن دوار.

أنس بن فيصل الحجي

باحث وكاتب ومحاضر

المملكة العربية السعودية

Comments are closed.