رفعت حُكومة بنيامين نِتنياهو رايات الاستِسلام بمُختلف ألوانها بعد إطلاق سبعين صاروخًا، ثلاثون منها من جنوب لبنان، وأربعون من قِطاع غزّة، وأكّدت للوُسطاء العرب الذين هرولوا لنجدتها أنها لا تُريد توسيع دائرة الحرب، والدّخول في مُواجهةٍ مع “حزب الله” اللبناني.
جميع الهجمات الإسرائيليّة التي جاءت ردًّا على هذه الصواريخ، واستهدفت جنوب لبنان وقطاع غزّة لم تجرح عُصفورًا واحدًا، وكُل قذائفها وصواريخها أصابت حُقولًا زراعيّة، أو مناطق خالية، وبشَكلٍ مُتعمّد، لأنّ نِتنياهو الذي أصدر هذه التعليمات بعد التصعيد يُدرك جيّدًا أن استشهاد لبناني أو فِلسطيني واحد سيفتح على كِيانه أبواب جهنّم وشبابيكها، لأنّ قرار الرّد على “العُدوانات” الإسرائيليّة والثّأر للشّهداء في سورية وداخِل إيران، والانتِصار لمُرابطين الأقصى قد اتّخذ.
لعلّ إفيغدور ليبرمان وزير الأمن الإسرائيلي الأسبق كان الأكثر دقّةً في توصيفه لمعركة الـ 36 ساعة الماضية عندما قال شامتًا “الرّد الإسرائيلي على صواريخ لبنان وغزّة كان نكتةً مُضحكة، والرّدع مُقابل “حزب الله” تآكل كُلّيًّا، وإسرائيل تُواجه انهيارًا داخليًّا وعُزلةً خارجيّةً، ولم تعد تملك قُدرة الرّدع”.
هذا الهُدوء السّائد حاليًّا يأتي بسبب المُفاجأة الصّادمة التي لم تتوقّعها حُكومة نِتنياهو و”صُقورها” من أمثال إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، ويُمكن تلخيص أبرز فُصولها وحقائقها الجديد في النقاط التالية:
-
أوّلًا: “حزب الله” كسب هذه المعركة دون أن يُطلق صاروخًا واحدًا، وترك جولتها الأولى لـ”الأشبال”، واحتفظ بقُدرته القتاليّة وصواريخه، ومُسيّراته، الدّقيقة للجولة القادمة الأكبر والتي ربّما تكون وشيكةً جدًّا.
-
ثانيًا: فتح الجبهة اللبنانيّة لأوّل مرّة مُنذ حرب عام 2006، وإطلاق صواريخ “الكاتيوشا” و”الغراد” لقصف المُستوطنات الإسرائيليّة في الجليل المُحتل، جاءَ تأكيدًا ليس على وحدة السّاحات، وإنّما وحدة الصواريخ أيضًا، وسُقوط كُل المخاوف والموانع التي كانت تُحرّم تفعيل هذه الجبهة، ومن سيتحمّلون المسؤوليّة ليس من أطلقوا الصواريخ، وإنّما من جوّعوا الشعب اللبناني، وسرقوا ودائعه، وغازه، ونفطه، وحرَموه من أبسط مُتطلّبات الحياة الأوّليّة، فقرار الحرب ليس في يَدِ نِتنياهو أو كيانه، وإنّما باتَ في يَدِ المُقاومة، وحُرمَة الأقصى هي الصّاعق المُفجّر.
-
ثالثًا: القبب الحديديّة فخر الصناعة الدفاعيّة الإسرائيليّة والأمريكيّة فشلت فشلًا ذريعًا في اعتراض جميع الصواريخ، سواءً من جنوب لبنان أو جنوب فِلسطين، ووصلت أكثر من ثلاثين منها (من مجموع 70) إلى أهدافها، الأمر الذي سيُؤدّي إلى “بوار” سُمعتها وسُوقها، وانفِضاض المُشترين المُحتملين لها، خاصَّةً في مِنطقة الخليج وأوكرانيا.
-
رابعًا: فضْح المزيد من أكاذيب بنيامين نِتنياهو وائتلافه الفاشي، وهو الائتلاف الذي وصل إلى السّلطة على ظهر وعدٍ بتعزيز قوّة الكيان وتحقيق الأمن لمُستوطنيه، في ظِلّ تصاعد العمليّات الفدائيّة لكتائب المُقاومة، وحالة الارتِباك والرّعب التي يعيشها مُستوطنوه في ذروةِ عيد الفصح اليهودي، كُل هذا وقبل إكمال حُكومة نتنياهو المِئة يوم الأولى من عُمرها في السّلطة.
-
خامسًا: كان لافتًا، وربّما للمرّة الأولى، أنه لم يتم إعلان أيّ جهة فِلسطينيّة أو لبنانيّة، مسؤوليّتها عن إطلاق الصواريخ من الجبهتين اللبنانيّة والفِلسطينيّة (قِطاع غزّة)، الأمر الذي يعكس استراتيجيّةً جديدةً، عُنوانها الأبرز غرفة عمليّات عسكريّة مُوحّدة شِمالًا وجنوبًا، والدّفع عن المكاسب الإعلاميّة.
“حزب الله” الأب الروحي للمُقاومة بشقّيها اللبناني والفِلسطيني الذي أدار هذه المعركة بدهاء، ومن المقاعد الخلفيّة، والإسرائيليّون يعرفون هذه الحقيقة جيّدًا، ولكنّهم يُنكرونها لتجنّب المُواجهة معه، فمن المُستحيل أن تنطلق رصاصة، وليس صاروخًا، من جنوب لبنان دون مُوافقته أو الحُصول على الضّوء الأخضر منه.
سُبحان مُغيّر الأحوال، فنِتنياهو الذي ظلّ ينفش ريشه ويُهَدّد بتدمير إيران لوحده، وبُدون دعمٍ أمريكيّ، طِوال فترات رئاسته السّت، لا يُريد حربًا مع “حزب الله” أحد أذرعها العسكريّة، ممّا يُؤكّد حالة الإذلال والهَوان والهلع التي يعيشها هذه الأيّام.
نُدرك جيّدًا، أن الحرب لم تنته، وأن مُواجهات يوميّ الخميس والجمعة الماضيين مُجرّد الفصل الأوّل، وربّما نَصحُوا غدًا الأحد على اشتِعالِ فتيلِ مُواجهةٍ أكبر حيث يستعدّ المُستوطنون لاقتِحام المسجد الأقصى حاملين القرابين، وعلى أيّ حال الصواريخ والمُسيّرات جاهزة للانطِلاق، وحالة استِعداد المُقاومة في أقصى حالاتها.
يوم أمس الجمعة أفاقَ نِتنياهو ورهطه على ثلاث صفعات، أو لكمات شِبه قاضية، الأولى عمليّة فدائيّة في غور الأردن أدّت إلى مقتل ثلاثة مُستوطنات في الصّباح، وأخرى دهس في وسط تل أبيب في المساء، أدّت إلى مقتل سائح وإصابة سبعة آخرين، وبين الاثنين إطلاق نار على سيّارةٍ للمُستوطنين في شِمال الضفّة الغربيّة، هذه العمليّات الثلاث في يومٍ واحد فقط، ويعلم الله ما تُخبّئه الأيّام المُقبلة من صفعاتٍ أُخرى.
نِتنياهو استدعى جُنود الاحتياط الأمني والعسكري، في مُؤشّرٍ واضح على مُحاولاته لتعزيز الرّدع ووقف الانهيار وطمأنة مُستوطنيه المُرتعدين خوفًا ورُعبًا، ولكنّها مُحاولةٌ يائسة، واستِعراضٌ فارغ، ورسالة فاشلة لن تُعطي مفعولها، خاصّةً إذا كانت مُوجّهةً لفصائل المُقاومة، فحتّى لو استدعى جميع قوّات احتِياط العالم، وجُيوشه، لن يهزم المُقاومة بل ستهزمه.. والأيّام بيننا.
عبد الباري عطوان
لندن
Comments are closed.