في يوم عاشوراء، يترنح الزمان على حافة الذاكرة، تجتاح الصرخات السماء، تلامس النجوم الحزن، وتسكن القلوب نبضات العزاء والفخر، في ذاك اليوم، ترسو الأرواح على شواطئ الصبر، تتعانق الذكريات بلحظات الفجيعة، تنساب الدموع تحيةً للأبطال الشهداء، يوم العاشر من محرم، بداية الحزن ونهاية الظلم، إنه يوم الوفاء والشهادة، يوم تختلط فيه الدموع بالفخر، وتتسامى الأرواح إلى السماء كالطيور الحرة، نحو العدالة والعزة والكرامة الرفيعة، لنحمل في قلوبنا راية الإنسانية، ولنزرع في أرض الحياة، بذور السلام والتسامح، ونعيد بناء الأمم من جديد.. هذا يوم عاشوراء، يوم العطاء والتضحية، فلنكن كالحسين في موقف الحق، وكربلاء لن تموت، لتحيا الأمة بكلمات الحرية والعزة، ولننير الدروب، ببذرة الحق التي لا تموت، وبنور الحقيقة الذي لا ينطفئ.
جاء عن أبي الأسود الدؤلي أنه قال: أترجو أمة قتلت حسينًا.. شفاعة جده يوم الحساب؟ وقد عبر الدؤلي وهو واحد من أبرز علماء النحو والمحدثين العرب والشعراء، في هذا البيت عن الفاجعة التي نزلت بالأمة في حادث استشهاد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، سبط النبي صلى الله عليه وسلم، وسيد شهداء أهل الجنة، وتوافق هذه الذكرى التي تركت كثيرًا من الدروس وعبر الزمان مثلما تركت الحسرة والحزن في القلوب، ذكرى احتفال المسلمين في شتى بقاع الأرض باليوم الذي نجا الله فيه نبيه موسى عليه السلام وجماعته، وأغرق الظالمين فرعون وقومه، ومن هنا اعتُبر ذلك اليوم وذكراه بمثابة الهدية التي منحنا إياها المولى عز وجل، فنستقبلها بالسرور والنصر والتأييد، إذ لم يكن فقط يوم هذه النجاة، بل فيه أيضًا نجى الله نبيه نوحًا عليه السلام من الطوفان، وكان موقنا بنصر الله العظيم ونجاته، رغم أنه بنى سفينته، التي استهزأ بها قومه، بأدواتٍ بسيطة، ليحمل فيها من كلٍ زوجين اثنين، وغرق أيضًا الظالمون، الذين ظلموا أنفسهم قبل أي شخص آخر، بعد دعاهم كثيرًا لعبادة الله الخالق، “فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارًا”، كما أن هذا اليوم يوافق اليوم الذي تاب فيه الله على سيدنا آدم عليه السلام، إذًا فإن عاشوراء هو يوم المعجزات الربانية ويوم النصر والابتلاء معًا، وفيه من الدروس، ما يُحفرُ في جدران الزمن ويستقر في الوجدان، استقرار كل هذه الأحداث العظمى من تاريخ البشر والأمم، ففيه نرى صبر النبيين الذين هم بشرٌ مثلنا وجاءوا من بين أقوامهم ليدعوا إلى سبيل الله الواحد الأحد، فعاشوا تجربة الكفاح وتحمل المشاق ومواجهة الحروب في سبيل قضيتهم.
و يروي الطبري في “”تاريخ الرسل والملوك”، وابن كثير في “البداية والنهاية”، والذهبي في “سير أعلام النبلاء”، أن الإمام الحسن بن علي تنازل عن الخلافة لمعاوية بين أبي سفيان، حقنًا لدماء المسلمين، فأراد أن يورّث الحكم من بعده لابنه يزيد، حتى أنه أخذ له البيعة في حياته، الأمر الذي قوبل بالاستياء من الصحابة والمسلمين لأن الأمر في المقام الأول بالشورى، ثم أن يزيد لم يزل صغيرًا ولا يصلح للخلافة، وبعد موت معاوية بلغ أهل الكوفة أن يزيد قد ورث الخلافة، فكتبوا إلى الحسين عليه السلام يدعونه إليهم حتى يبايعوه خليفة، فكتب وأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل إليهم، ليتفقد الأمر، واجتمع معهم وأخذ عليهم العهد بالبيعة للحسين وأن ينصروه ويحموه، لتتواتر بعدها الرسائل إلى الحسين من أهل العراق، ويأتيه كتاب مسلم بن عقيل بالقدوم عليه بأهله، فعلم يزيد بن معاوية بتحرك ونية أهل العراق بالبيعة للحسين بن علي عليهما السلام، فخشي على الملك، وعزل وقتل مسلم بن عقيل، في الوقت الذي كان الحسين قد تحرك فيه من الحجاز إلى العراق، وكان الزبير قد اقترح على الحسين رضي الله عنه أن يقوم في المسجد الحرام بمكة فأجابه الحسين “والله لئن أُقتل خارجاً منها شبر، أحب إلى من أن أُقتل داخلاً منها بشبر”، وهنا نلحظ حرص الحسين رضي الله عنه على حفظ حرمة المسجد الحرام، وإن كان سيناله الضرر، والحرص على جعل دور العبادة للعبادة وليس لأي شأن سياسي، وقتل جيش يزيد بن معاوية الإمام الحسين في كربلاء، وقطعوا رأسه الشريفة، ولكن قبل ذلك كان يواجه قاتليه بالشجاعة كلها، صابرًا على ضرب السيوف ورمي السهام وطعن الرماح، وقيل إن السهام قد صارت في درعه كالشوك في جلد القنفذ، ووُجد في ثيابه مئة وعشرون رمية بالسهم، وكان الأعداء يتعجبون من صبره وشجاعته وصلابته وصبره وثباته، وأنه لم يكن يبالي بالموت، حتى طُعن وقُتل غدرًا وطمعًا.
هذا الحدث الذي لم يزل صداه يتردد كل عام حتى يومنا هذا، سيبقى راسخًا في أذهان ووجدان الأمة، إذ يخص ابن بنت النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو الذي نما ورسخ حبه في أفئدة المسلمين والمحبين لآل بيت رسول الله، وخاصة أهل مصر الذين يحتفون بذكرى مولد الحسين كل عامٍ مرتين، مرةً في شعبان، وتوافق ذكرى يوم ميلاده الشريف في الثالث منه لعام 4 للهجرة، والثانية بالأسبوع الأخير من ربيع الآخر، وتوافق ذكرى وصول رأسه الشريف من عسقلان بفلسطين إلى مصر واستقرارها بها. ويعلم القاصي والداني بتلك المحبة لآل بيت رسول الله، المستقرة والراسخة بلا غلو أو تفريط في قلوب المصريين، وكم احتضنت مصر من مقاماتهم بعد أن لجأوا إليها بعد معركة كربلاء، وبلغ حب الحسين مبلغًا لا يُوصف، وأجدُني عبد الله الفقير أليه، الذي أحب الحسين وآل البيت حبًا جمًا، وأحب من يحبه، لذا أدعو الله أن يُديم عليّ كرمه وفضله ويعينني فيما أحببت بتجهيز الطعام للمحبين ومريدي المقام الكريم الطاهر، وأن أحضر حلقات الذكر وأستمتع بمديح رسول الله، فأشعر بطمأنينة عميقة وسكينة ومحبة، وتطيب النفس وتبرأ من ضغوط الحياة في حلقات الذكر الشجي، في حضرة الحسين الحبيب الذي أسميت ابني الأكبر باسمه، تبركًا ورجاء وتنميًا من الله في يعينني على أن ينشأ هو وابني الآخر الحسن، وفيهم من أخلاق الحسين الذي تخلّق بأخلاق النبي صلوات الله وسلامه عليه، هادي الأمة ومعلمها، المرسل رحمة للعالمين.
بقلم: د. خالد قنديل
مصر
Comments are closed.