أثارت الضربة التي وجّهها الكيان الصهيوني لإيران منذ أيام قليلة، وتحديداً يوم 26/10/2024، لغطاً شديداً لا تزال أصداؤه تتردّد في وسائل الإعلام حتى الآن. ساهمت في تعميق هذا اللغط عوامل كثيرة، أهمها ما تردّد قبل وقوع هذه الضربة عن وجود تباين في وجهات النظر بين الحكومتين الإسرائيلية والأميركية حول نطاقها والضوابط والمحاذير التي يتعيّن مراعاتها، وما تردّد بعد وقوعها عن التباين الذي ظهر بين الروايتين الإسرائيلية والإيرانية حول حقيقة ما جرى.
فقبل وقوع الضربة، ظهرت تقارير إعلامية تؤكد أن نتنياهو يسعى لانتهاز فرصة، يعتقد أنها باتت متاحة، لتدمير برنامج إيران النووي، أو على الأقل لضمان تأخير قدرة هذا البرنامج على تصنيع السلاح النووي لسنوات طويلة مقبلة.
وعندما نشرت وسائل إعلام أميركية تسريبات تتعلّق بالخطط السرية لهذه الضربة، فسّرت هذه الخطوة على أنها محاولة من جانب أجهزة الدولة الأميركية العميقة لإحراج نتنياهو ودفعه إلى الالتزام بضوابط ومحدّدات أميركية تتعلق بطبيعة وحجم الضربة المتوقّعة، خصوصاً بعد أن أصدرت إدارة بايدن تصريحات رسمية تؤكد حقّ الكيان في الردّ وفي الدفاع عن نفسه، مع مناشدة جميع الأطراف في الوقت نفسه بالحرص على تجنّب كلّ ما من شأنه اندلاع حرب إقليمية في المنطقة، ومطالبة الكيان علناً بعدم التعرّض ليس لمنشآت إيران النووية وإنما النفطية أيضاً، تجنّباً لحدوث هزّات مفاجئة في سوق الطاقة قد تتسبّب في هزّات كبيرة للاقتصاد العالمي.
وبعد وقوع الضربة، تضاربت الروايتان الإسرائيلية والإيرانية حول حقيقة ما حدث بالفعل. فبينما جنحت الرواية الإسرائيلية نحو المبالغة والتضخيم، تعمّدت الرواية الإيرانية التقليل من شأن الضربة. فقد ضخّمت الرواية الإسرائيلية من حجم الضربة، حين ادّعت أن “مئات الطائرات الحربية شاركت فيها”، ووسّعت من نطاقها، حين أكدت أنها طالت “ما لا يقلّ عن عشرين هدفاً عسكرياً حيوياً”، وبالغت في حجم الخسائر الناجمة عنها، حين أشارت إلى أنها “أصابت جميع الأهداف المحدّدة لها سلفاً وأن جميع الطائرات التي شاركت فيها عادت إلى قواعدها سالمة”. صحيح أنها عادت وتبنّت سردية أكثر تواضعاً، حين أشارت إلى أن عدد الطائرات التي شاركت فيها بلغ “نحو مئة طائرة بما في ذلك المسيّرات، واستهدفت نحو عشرة مواقع أصابتها بدقة متناهية”، غير أنها رسخّت الانطباع بتعمّد المبالغة والتضخيم.
أما الرواية الإيرانية فأشارت إلى أن أنظمة الدفاعات الجوية الإيرانية تعاملت مع الطائرات والمسيّرات المغيرة بكفاءة منقطعة النظير” ولم يتمكّن أيّ منها “من الولوج إلى المجال الجوي الإيراني”، ولم ينجم عنها سوى “أضرار مادية طفيفة”. صحيح أنها عادت واعترفت بسقوط أربعة قتلى، غير أنها رسّخت بدورها انطباعاً بتعمّد التقليل من شأن الضربة.
وبصرف النظر عن مدى دقة التصريحات الصادرة عن الطرفين المتنازعين، فقد بدا جلياً لعدد من المراقبين المحايدين أن الهجوم جاء أقل بكثير مما كان متوقّعاً، خصوصاً في ضوء تصريحات عنترية سبق أن أدلى بها كلّ من نتنياهو وغالانت، وأكدت أن الهجوم على إيران، سيكون “مزلزلاً ومبتكراً وغير مسبوق وسيؤدي إلى تغيير كلّ المعطيات الاستراتيجية في المنطقة”، وهو ما لم يحدث بالطبع.
في تفسير الأسباب التي أدت إلى تراجع ونكوص نتنياهو عن تنفيذ تهديداته السابقة تجاه إيران، انقسم المراقبون إلى فريقين؛ الأول: رأى أن نتنياهو انصاع لتوجيهات إدارة بايدن التي حذّرته من اندلاع حرب إقليمية واسعة النطاق في الشرق الأوسط، وأن ذلك لن يخدم مصالحها أو مصالح “إسرائيل”، كما رأى في انصياع نتنياهو لهذه التوجيهات دليلاً على حجم ما تملكه الولايات المتحدة من نفوذ في مواجهة كيان لا يستطيع إلا أن يكون مجرد أداة وظيفية في خدمة المصالح الأميركية كما تعبّر عنها النخبة الحاكمة.
أما الفريق الثاني، فينطلق من رؤية طائفية تفترض أن نتنياهو هو المستفيد الأول من وجود نظام إيراني إسلامي راديكالي في المنطقة، ومن ثم فليست لديه مصلحة حقيقية لا في حسم الصراع معه ولا في تخفيف حدته، لأن وجوده يسهّل مهمته في إشعال صراع طائفي بين السنة والشيعة، ويتيح للكيان الصهيوني فرصة ذهبية للادعاء بأن الدول السنية تشكّل حليفاً طبيعياً له في مواجهة “هلال شيعي” يسعى لتوسيع نفوذه وبسط هيمنته على كامل المنطقة، ويسمح بتوظيفه لإشعال صراع سياسي بين النظم الراديكالية والنظم المعتدلة في المنطقة، وترسيخ الاعتقاد بأن النظم والقوى المعتدلة في المنطقة هي حليف طبيعي لـ “إسرائيل” في مواجهة النظم والقوى الراديكالية التي يحرص النظام الإيراني على قيادتها في المنطقة.
غير أنني أعتقد أن كلا الفريقين لم يتمكّنا من تقديم تفسير مقنع للأسباب التي دعت نتنياهو للعدول عن ضرب المنشآت النووية الإيرانية كما لوّح البعض. في تقديري أن نتنياهو انحاز لمصالحه الشخصية ولمصالح حكومته أولاً وقبل كل شيء، حين اختار أن يتراجع عن تهديداته السابقة بضرب المنشآت النووية الإيرانية، وأعتقد أنه لم يفعل ذلك بسبب ضغوط مارستها إدارة بايدن عليه، وإنما لأنه أدرك يقيناً أنه لا يستطيع إنجاز هذه المهمة بنجاح من دون مشاركة أميركية مباشرة وفعّالة.
ولأن إدارة بايدن تبدو عازفة عن الضلوع في عملية من هذا النوع في الظروف الحالية، لحسابات انتخابية واستراتيجية في الوقت نفسه، فمن الطبيعي أن يصبح الخيار العقلاني الوحيد المتاح أمامه هو عدم الدخول معها في صدام مباشر، خصوصاً في وقت تستعدّ فيه لخوض انتخابات رئاسية يصعب التأكّد من نتائجها على وجه اليقين، وأيضاً في وقت يبدو فيه حسم الصراع المشتعل على أكثر من جبهة في المنطقة مسألة قابلة للتأجيل إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية.
فإذا فاز ترامب في هذه الانتخابات، وهو الخيار الذي يبدو واضحاً أن نتنياهو يفضّله ويتمنّاه، يصبح الطريق ممهّداً بصورة أفضل لممارسة أكبر قدر من الضغوط ليس على إيران فحسب وإنما على كل الأطراف المعنية بالصراع في المنطقة، ما قد يساعده على حسم الصراع المتعدّد الجبهات بالطريقة التي يرى أنها تصبّ لصالحه ولصالح حكومته المتطرفة. أما إذا فازت كمالا هاريس فلن يخسر نتنياهو شيئاً، لأنه سيكون بمقدوره في هذه الحالة التظاهر بأنه قدّم لها خدمة جليلة، بامتناعه عن التصعيد في مواجهة إيران استجابة لرغبة الإدارة التي تشارك في قيادتها، ما سيضعه في موقف يسمح له بمطالبتها لاحقاً، بمجرد دخولها البيت الأبيض، بأن تسلك النهج نفسه الذي سلكه بايدن طوال فترة ولايته، وهو سلوك شديد الانحياز للكيان الصهيوني.
يدلّ سلوك نتنياهو وممارساته، خاصة منذ “طوفان الأقصى”، على أن طموحه الرئيسي لا يقتصر على البقاء في منصب رئيس وزراء الكيان لأطول فترة ممكنة فحسب، وإنما يمتدّ ليشمل الدفاع عن التوجّهات الأيديولوجية والمواقف السياسية ذاتها التي يتبنّاها الجناح الأكثر تطرّفاً وعنصرية في الحكومة الحالية. لذا يبدو شديد الاقتناع بأن الجولة الحالية من الصراع، ورغم كل ما تطرحه من تحديات وما تثيره من عقبات، تتيح أمامه فرصة ذهبية في الوقت نفسه لتحقيق مكتسبات جديدة للمشروع الصهيوني، أقلّها إعادة احتلال واستيطان قطاع غزة، وإعادة فرض السيطرة الصهيونية الكاملة على أقصى مساحة ممكنة من الضفة الغربية.
ولأنه يعتقد أيضاً أن إيران أصبحت هي العقبة الوحيدة التي تحول دون تمكينه من تحقيق طموحاته كافة، يرى نتنياهو أن إسقاط نظامها هو الحل الوحيد الذي يسمح له بإزالة هذه العقبة من طريقه. فلولا هذا النظام الراديكالي لما تشكّل “محور المقاومة” ولما اضطر “جيشه” لخوض حرب تشبه حرب العصابات مع مكوّناته كافة، انطلاقاً من فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن، ولما تواصلت هذه الحرب لأكثر من عام كامل من دون أن تبدو لها نهاية في الأفق، ولما تكبّد الكيان كلّ ما تكبّده من خسائر مادية ومعنوية هائلة طوال هذه الفترة.
ولأن إيران دولة كبيرة وراسخة في المنطقة، وتمتلك برنامجين شديدي الطموح، أحدهما نووي والآخر صاروخي، فمن الطبيعي أن تختلف طريقة التعامل معها عن طريقة التعامل مع بقية مكوّنات محور المقاومة.
وقد جرب نتنياهو أن يتعامل مع الأطراف أولاً، على أمل أن يتخلّص منهم قبل التفرّغ للانقاض على الرأس، ثم جرّب العكس، على أمل التمكّن من قطع الرأس كي تموت الأطراف، لكنه فشل في الحالتين، وها هو الآن يجد نفسه مضطراً للتعامل مع الرأس والأطراف في وقت متزامن، ولكن بعد أن تمكّنت الأطراف من استنزافه لمدة عام كامل، فهل يتمكّن من استئصالهما معاً؟
ليس من المرجّح أن تشهد منطقة الشرق الأوسط مفاجآت من أي نوع قبل إتمام انتخابات الرئاسة الأميركية المقرّر إجراؤها بعد أقلّ من أسبوع من الآن، لكن الفترة الانتقالية التي ستعقب إعلان النتائج التي أسفرت عنها تلك الانتخابات، والتي ستمتد حتى يوم 20 كانون الثاني/يناير من العام المقبل، موعد دخول الرئيس الأميركي الجديد البيت الأبيض، ستكون على الأرجح حبلى بمفاجآت كثيرة. آمل ألا تصبح هذه المنطقة على النحو الذي يدور في مخيّلة بنيامين نتنياهو!.
حسن نافعة
مصر
Comments are closed.