هل أخطأ “المحور”…أين؟ وكيف؟

في العلن، ليس ثمة مراجعات جدية لأداء أطراف “محور المقاومة” في الحرب التي دخلت شهرها الخامس عشر، معظم الجهد ينصرف في السجال حول ما إذا كان أطرافه قد انتصرت أم لا، وما معنى النصر والهزيمة، وأي دور لعبته جبهات الإسناد، وهل كان دورها “ضرورياً”، وسلامة المبررات ووجاهة الأسباب التي دفعت إلى فتحها، وجدية النتائج التي ترتبت عليها وجدواها.

وخلف الأبواب المغلقة، لا شك أن ثمة نقاشاً جدياً يدور حول عناوين أبعد من أجندة “السجال الإعلامي” الدائر بقوة، منذ اليوم الأول للحرب، وسيبقى محتدماً، لأشهر، وربما لسنوات عديدة قادمة… لست على بيّنة من عناوين هذا النقاش الداخلي، ولا أعرف شيئاً عن الكيفية التي تقارب بها الأطراف عناوين المراجعة، بل ولست متأكداً من أن “تزاحم” الأحداث والتطورات، قد ترك وقتاً كافياً لإجراء المراجعات والتقييمات العميقة المطلوبة.

في زمن اشتعال المعارك، واحتدام حرب التطهير والإبادة في غزة ولبنان، كنت أميل إلى النظرية القائلة بأن الوقت المتاح، يجب أن يُكرّس لتعزيز الصمود والثبات، وتصليب مواقع المقاومة وخنادقها، وليس للجدالات والسجالات التي سيتوفر لها الوقت الكافي بعد أن تضع الحرب أوزارها… اليوم، بعد اتفاق التهدئة في لبنان، واتجاه غزة إلى توقيع اتفاق من طرازه وشاكلته في العموم، وبعد السقوط المدوّي لنظام الرئيس بشار الأسد، وانهيار مؤسساته العسكرية والأمنية الدراماتيكي… اليوم، بعد انقلاب المشهد الاستراتيجي في الإقليم، يبدو أن وقت المراجعات والتقييمات، قد أزف، وآن أوان الشروع في وضع الأصابع على الجروح والأخطاء، واستنباط الدروس المستفادة، فتلكم أمانة لأجيال قادمة من “المقاومين العرب”.

لست من هواة “المقالات المتسلسلة”، ولكنني سأبدأ بنشر عدد منها – ليست متتابعة زمنياً بالضرورة – أتناول في كل واحدٍ منها بعضاً من جوانب الخلل وسوء القراءة والتقدير، التي صاحبت “طوفان الأقصى” و”الإسناد” و”أولي البأس”، وسأكتفي في هذه المقالة، بتناول، “وحدة الساحات” و”تعاقب الجبهات” بدل تزامنها، أو ما اعتدنا الإشارة إليه، بمقولة “الثور الأبيض الذي أكل يوم أكل الثور الأسود”.

وحدة الساحات وتعاقب الجبهات

ظلّ حديث “وحدة الساحات” غامضاً وحمّال أوجه وتفسيرات عديدة، وذهبت القراءات فيه وحوله، مذاهب شتى، وكان مفهوم “الوحدة” يصعد ويهبط، وفقاً لتطورات الأحداث وتعاقب المواجهات، وأحياناً كثيرة، غلب التفكير “الرغائبي” على أي تفسير آخر لهذه المقولة، وفي بعض الأحيان، اكتسب هذا الحديث، طابعاً دعائياً – دوغمائياً، لا يُبقي مطرحاً لأي اجتهاد في موضع النص.

كان يكفي السؤال: أين سوريا من هذا المحور، ولماذا لم تُفتح جبهة الجولان، حتى ينهال على المتسائل فيض من الانتقادات والاتهامات، كما لو أنه أتى “أمراً فرياً”… كان يكفي السؤال عمّا إذا كانت إيران ستوسع دائرة ردود أفعالها على الأفعال الإسرائيلية المستفزة حتى تجابه بسيل أشد من الانتقادات الساخرة والجارحة… ومن طرائف الأمور وغرائب التحليلات، الإصرار دوماً على التأكيد بأن روسيا بدورها، هي ركن ركين لهذا المحور، وأنها لن تبيع وتشتري، ولن تقايض أو تساوم.

لم يكن بعض أطراف “المحور” والناطقين باسمه، يقبلون بأقل من الحديث عن “غرفة عمليات المحور” لتأكيد فائض التماسك والتناغم بين أطرافه، مع أنه كان يكفي القول، من دون إشاعة أي أوهام، بأن ثمة درجة من التنسيق والتعاون، وأن هذه الأطراف تعمل مع بعضها البعض في ما تتفق عليه، ويعذر بعضها بعضاً في ما تختلف حوله…ومع أن الحرب التي أطلقها “الطوفان”، لم تبدأ شرارتها الأولى بالتنسيق بين أطراف المحور، بل إن هذه الأطراف جميعها، باستثناء “حفنة” من قادة حماس والكتائب في غزة، لم تكن على علم – مجرد علم – بالسابع من أكتوبر.

منذ اليوم الأول للحرب، كان واضحاً أن دمشق قد نأت بنفسها عنها، وأن جُلَ ما كانت على استعداد لتقديمه، هو الاستمرار في دورها كمحطة “ترانزيت” بين أطراف هذا المحور، وكان واضحاً أن موسكو وعواصم عربية، دفعت الأسد إلى البقاء بعيداً من دائرة النار، على أن يكافأ في ما بعد، برفع العقوبات والاندماج مجدداً في “المجتمع الدولي”…ظلّ الأسد خارج دائرة النار، ولكنه كوفئ بالمنفى والانهيار.

إلى أن بتنا نعرف، زمن حرب التدمير على لبنان، أن “أولي البأس”، كانوا عرضة لعلميات استهداف لئيمة وموجعة، وأن وفرة المعلومات المحيطة بهم وتحركاتهم، في سوريا ولبنان على حد سواء، كانت تصل، في قسم رئيس منها، عبر  اختراقات نوعية في أعلى قمم الهرم الأمني والعسكري السوري، مباشرة إلى “إسرائيل”، أو عبر وسطاء من حلفائها في الإقليم، والأيام ستكشف تباعاً، حجم التهتك والاختراقات، التي أصابت بنية الدولة السورية، المدنية والأمنية والعسكرية سواء بسواء.

سقوط النظام في دمشق، وفّر وسيوفر “خزاناً” من المعلومات، لا تصح معه أبداً، عبارات التثمين والتمجيد التي رافقت الدور السوري وأحاطت بالأسد ومقربيه. ومن اليوم الأول، كان واضحاً، أن الركن العراقي في “المحور” مكبّل بحسابات السياسة وتوازنات القوى، إن داخل المكوّن الشيعي، الذي لا تذهب أطرافه الوازنة، مذهب المقاومة والإسناد، أو في البيئة الوطنية العراقية، حيث “المكونات الأخرى”، لا ترغب في الزج بالعراق في ما تعتقده “حرباً ليست حربها”، ولقد انتهينا، سيما بعض سقوط نظام الأسد، إلى واقع كبّل فصائل “المقاومة الإسلامية العراقية”، ويحيط بها من كل جانب، فلا هي قادرة على مواصلة الإسناد لغزة ولبنان، ولا هي تمكنت من مدّ يد العون لنظام الرئيس الأسد، والأرجح أنها في الطريق لفقدان دورها في رفع كلفة الوجود الأميركي في العراق.

وحده اليمن، دخل الحرب من دون استئذان، بـ”نصاب شعبي” شبه كاسح، وإن افتقر إلى”النصاب السياسي”، وكان لحضوره الداعم للبنان وغزة، تأثير وازن، رغم حواجز الجغرافيا وبعد المسافات…. لكن “إطالة أمد الحرب”، قد تحوّلت إلى سلاح ذي حدين، بعد أن ظننا وظن كثيرون غيرنا، أن المقاومة وأطراف المحور، هي “المستفيد الأوحد” من “الحرب طويلة الأمد”، فإذا بالإجازة الدولية – الأميركية للتوحش الإسرائيلي، والدعم المطلق له، يجعلان من هذا السلاح، سيفاً على رقبة المقاومة، وبالأخص بيئاتها الاجتماعية الحاضنة، وأصبح “وقف الحرب” أو “وقف العدوان”، مطلباً ملحاً للمقاومين، لا تتقدمه أي مطالب أخرى.

سيتعين على الذين يحملون على “الإسناد” والمساندين، أن يتجردوا من كل قيمة أخلاقية وإنسانية ووطنية وقومية ودينية، لكي يشيروا بأصابع الاتهام والتنديد إلى القوى التي قررت إسناد غزة، وفي مقدمتها حزب الله، ذلك أن الحزب قد جسّد في ما فعل، منظومة هذه القيم مجتمعة، وقدّم في سبيلها أغلى فواتير الدم والشهادة، ودفع – ولبنان – ما دفع، من أكلاف ستطوق أعناق الفلسطينيين لأجيال قادمة.

والإسناد اللبناني من دون التقليل من قيمة بقية جبهاته، كان مكلفاً على العدو وفعّالاً في نصرة غزة وأهلها ومقاومتها، فقد احتجز أكثر من نصف “الجيش” الإسرائيلي بمختلف أسلحته، بعيداً من جبهة غزة، ووفر دعماً سياسياً ومعنوياً، أبقى لرابط العروبة والدين، آخر معانيه، والأهم لنا أن نسأل لو لم تفتح جبهات الإسناد، بالأخص في لبنان، هل كان لمقاومة غزة أن تستمر طيلة هذه الأشهر؟ سؤال افتراضي صحيح، والانقسام بشأن الإجابة عليه مرجحة، ولكنه سؤال مشروع تماماً.

لكن ذلك لا يعني أن نقفز من فوق سؤال طُرح في بواكير الحرب، ولم يعاود الظهور بقوة في سياقاتها: هل كان يتعين “ضبط إيقاع الإسناد وفقاً لقواعد الاشتباك القديمة”، أم أنه كان يتعين الذهاب إلى أبعد الشوط في الحرب والمواجهة،  ألم يكن من المجدي أكثر، الأخذ بنظرية تزامن الجبهات بدل تعاقبها؟ …سيما بعد أن بدأ يتضح أن الإسناد المضبوط بقواعد الاشتباك، لن يوقف الحرب على غزة، ولن يمنع “إسرائيل” من الاستدارة للثائر من المساندين.

كانت النتيجة نجاح “إسرائيل” في “الاستفراد” بالمعنى النسبي للكلمة، بالجبهات واحدة تلو الأخرى… دمرت غزة وأضعفت مقاومتها إلى أدنى الحدود، قبل أن تفتح جبهة لبنان على اتساعها، وعندما احتاج الحزب حماس والجهاد، لم يجدهما، وبعد ذلك سقط الأسد، من دون أن تنجح بقية أطراف “المحور” في استنقاذه كما فعلت أول مرة..

لقد قالها آموس هوكسين بشكل دقيق: لم نهزم حزب الله في الحرب، ولكننا أضعفناه كثيراً، فلا هو قادر على تشكيل تهديد استراتيجي لإسرائيل، ولا هو بقادر على مد يد العون للأسد… لا الحزب بوارد استئناف الحرب على “إسرائيل” من لبنان، ولم يبق في دمشق من هو بحاجة ليد حزب الله… أما جبهة الإسناد الوحيدة التي ما زالت مشتعلة على ضفاف المندب وشواطئ الأحمر، فالأرجح أنها ستشهد تطورات درامية قريبة، من دون أن تلقى إسناداً يتخطى الأقوال إلى الأفعال، من أي طرف.

يبقى الحديث عن إيران أمراً بالغ الأهمية، لاستكمال المراجعة بشأن وحدة الساحات ونظرية “الثورين الأبيض والأسود”… كل تردد و”عقلانية” صدر عن طهران، قرأته “تل أبيب” ضعفاً وارتداعاً… رسائل النار في أبريل وأكتوبر، لم تكن كافية لردع “إسرائيل”، بل أثارت لديها شهية التوسع في توجيه الضربات إلى العمق الإيراني، سيما بعد أن صرفت طهران النظر، على ما يبدو، عن الضربة الثالثة؟… لقد كان يتعين التوجه بلا تردد إلى بناء ميزان ردع تقليدي صارم، بضربات استراتيجية موجعة، تتخطى تكتيك “الرسائل” وكان يتعين تسييج هذا الميزان، بإعلان إيران عضواً في نادي الدول النووية.

اليوم، تواجه طهران انكماشاً حاداً في دورها ونفوذها الإقليميين، وهي لن تجد “الإسناد” الذي تحتاجه إن هي تعرضت لضربات إسرائيلية جديدة، ما زالت حاضرة على مائدة غرف العمليات في “الكرياه”، وترامب عائد إلى السلطة بما يتخطى “أقصى الضغوط”، بعد أن خلص مساعدوه، إلى أنها سياسة غير فعّالة لثني إيران عن مشروعها النووي ودورها الإقليمي “المزعزع للاستقرار”، والحديث يتعالى عن ضربات عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية، تقوم بها الولايات المتحدة هذه المرة، وليس “إسرائيل” وحدها.

القفز فوق الهاوية، يتم بخطوة واحدة، وأي “دعسة ناقصة” يمكن أن تفضي بصاحبها إلى الوقوع في قعرها السحيق بدل اجتيازها والقفز عنها، لا يعني ذلك إزالة “إسرائيل” بضربة واحدة، ولكن الوصول إلى “تسويات” و”مقايضات” أكثر إنصافاً وتوازناً، وتكريس ميزان ردع، أقله كذاك الذي كان قائماً قبل الطوفان… ذلك لم يحدث، ونظرية “الثورين الأبيض والأسود”، اختبرت مجدداً في هذه الحرب، وأدت إلى دخول المنطقة برمتها، عتبات حقبة استراتيجية جديدة، من ملامحها إضعاف دور إيران وروسيا وحلفائهما في المنطقة، وتفاقم حدة العربدة والاستباحة الإسرائيليتين، وانتعاش الدور التركي و”الإسلام السني” في الإقليم، وعودة واشنطن إلى أدوار قيادية أوسع وأعمق.

يتعين على الأطراف الوقوف عند أبرز معالمها وتوازناتها وأولوياتها، على قاعدة أن ما حصل ليس نهاية المطاف، وأن هذه المنطقة حبلى بالمفاجآت من كل صنف وفي كل اتجاه، وأن الصراع مع الخطر الصهيوني – الاستعماري – الوجودي للأمة والمنطقة، هو صراع أجيال وعقود، وأن لكل مرحلة استراتيجيتها وأدواتها الكفاحية، وأن لكل زمان، دولة ورجالاً.

عريب الرنتاوي

مدير مركز القدس للدراسات السياسية

الميادين

Comments are closed.