هل تتأثر الدول العربية بعد تخلي أميركا عن قوتها الناعمة؟

واشنطن (عربي times)

ضمن استراتيجية «الصدمة» التي ينتهجها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، جرّ قراره بتفكيك ذراع المساعدات الأهم لأقوى دولة في العالم، انتقادات ومخاوف عالمية من ضرر سيلحق بالدول الأكثر هشاشة حول العالم، والمستفيدة من عشرات المليارات التي تُغدقها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية سنوياً على مشاريع إنسانية في تلك البلدان.

الوكالة المعروفة بـ(USAID) والتي تأسست قبل 64 عاماً بموجب أمر تنفيذي أصدره الرئيس جون كينيدي آنذاك، كانت الفكرة من ورائها خلق «قوة ناعمة» تساهم في توسيع نفوذ الولايات المتحدة أمام المد الشيوعي زمن الحرب الباردة، وكسب ودّ دول ما بعد الاستعمار، لتتحول إلى أداة ضغط في السياسة الخارجية الأميركية.

غير أن قرار ترامب الأخير لا يهدد فقط بإضعاف الهيمنة والنفوذ الأميركيين من خلال كسر الذراع الناعمة تلك، بل يلقي بظلاله على جهود التنمية عالمياً في زمن زادت صراعاته وأزماته وتعقدت مساراته.

وفي حال مضى ترامب في عزمه – الذي أحبطه مؤقتاً قرار من قاضٍ أميركي – ستكون الدول العربية من بين المتضررين الكبار، وعلى رأسها الأردن التي تعد ثالث أكبر مستفيد من برامج مساعدات الوكالة الأميركية للتنمية الدولية بعد أوكرانيا والكونغو، وفق بيانات رسمية.

ميزان الربح والخسارة

قرار ترامب بتفكيك الوكالة الأميركية للتنمية الدولية ودمج ما تبقى ضمن وزارة الخارجية، شكّل أحد مخرجات وزارة الكفاءة الحكومية المعروفة اختصاراً بـ«دوج» (DOGE)، والتي يقودها الملياردير إيلون ماسك، بعد أن تحول بغتة إلى أحد محركات صنع القرار داخل البيت الأبيض.

قطع أغنى رجل في العالم وعداً بخفض ما اعتبره إنفاقاً غير ضروري داخل الإدارة الأميركية وتقليص حجمها، مدرجاً الوكالة الأميركية للتنمية الدولية ضمن لائحته الأساسية بعد أن وصمها بـ«الإجرام».

وباعتبار الوكالة أكبر مانح دولي، قوبلت هذه المقاربة بانتقادات على نطاق واسع، تستند إلى كون الإدارة الأميركية الجديدة ركنت إلى ميزان ربح وخسارة «مختل»، فالميزانية السنوية للوكالة الأميركية للتنمية الدولية، التي جاءت في حدود 35 مليار دولار العام الماضي – وإن بدت ضخمة – تشكل جزءاً يسيراً فقط من الميزانية الفيدرالية، كما أنها لا تقارن بالمخصّصات السنوية لوزارة الدفاع، والتي تبلغ نحو 900 مليار دولار، بمعنى أنها استثمار صغير مقارنة بتكلفة القوة «الخشنة».

من منظور آخر، يعني إغلاق الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تقليص أو إنهاء العديد من المبادرات الرامية إلى تحسين أوضاع السكان الأكثر هشاشة حول العالم، عبر التخفيف من حدة الفقر، ومكافحة الجوع والأمراض، وتوفير المأوى والمياه الصالحة للشرب، ونشر التعليم، ما يضعهم أمام مخاطر هائلة. هذا التأثير الذي سيلحق بالاقتصادات الضعيفة قد يؤدي إلى تفاقم أزمات الهجرة، ما يتناقض وأهداف الإدارة الأميركية. وفي الأمد المتوسط، قد يسهم هذا التوجه في تعزيز نفوذ الصين وروسيا على حساب الولايات المتحدة.

الدول العربية وحجم الضرر

تراجع إجمالي المساعدات التي قدمتها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية العام الماضي، والتي تشكل غالبية المنح المقدمة من مجمل الوكالات الأميركية، إلى 35 مليار دولار مقابل 42 ملياراً في 2023، خصص معظمها في شكل مساعدات إنسانية (9.9 مليار)، وصحية (9.5 مليار)، ودعم لجهود الحوكمة (6.9 مليار)، بحسب ما اطلع عليه «إرم بزنس» من بيانات المساعدات الخارجية الشاملة التي تديرها وزارة الخارجية الأميركية و(USAID) بشكل مشترك.

وفيما حظيت أوكرانيا بنصيب الأسد من المساعدات الأميركية الذي فاق 6 مليارت دولار، توجد ضمن قائمة الدول العشر الأكثر استفادة 4 دول عربية، هي الأردن التي حصلت في 2024 على 1.3 مليار دولار في مجملها تحويلات نقدية لدعم الحكومة والمجتمع المدني، تليها الأراضي الفلسطينية (917 مليون دولار) ومعظمها مساعدات إنسانية، ثم السودان (769 مليوناً) واليمن (753 مليوناً)، ذهب الجزء الأكبر منها لبرنامج المساعدات الطارئة عبر برنامج الغذاء العالمي.

دول عربية أخرى تتلقى دعماً سنوياً من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية؛ وفي المجمل بلغت قيمة المساعدات الأميركية التي وجهت العام الماضي إلى المنطقة العربية عبر وكالة (USAID) نحو 5.4 مليار دولار، وفق حسابات «إرم بزنس».

وتلقت سوريا العام الماضي مساعدات إنسانية أميركية بقرابة 512 مليون دولار عبر وكالات الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية، والصومال نحو 474 مليوناً، والعراق 136 مليوناً، وحصل لبنان على 220 مليوناً، ومصر على 214 مليوناً خصص معظمها للمساعدات الإنسانية ودعم التعليم.

تونس بدورها تلقت 56.4 مليون دولار، وليبيا 49 مليوناً. أما المغرب فحصل على مساعدات تفوق 30 مليون دولار وجهت في غالبيتها لدعم التعليم والجهود الحكومية والمجتمع المدني.

مفاهيم خاطئة

رحلة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وإن لم تكن وردية على مدى العقود الماضية التي شكلت فيها مادة للسجال حول دورها في لعبة السياسة الخارجية، إلا أنها ساهمت في التقدم الذي أحرزته البشرية لجهة الحد من الفقر، ومحاربة الأمراض وتحسين الصحة، وزيادة متوسط ​​العمر، ومحو الأمية، وغير ذلك.

لكن، وعلى الرغم من هذا السجل الحافل، كانت الوكالة هدفاً دائماً للتيار القومي والمحافظ الذي لطالما اعتبرها أنصاره «إهداراً للمال العام».

يشير تقرير لمركز «كارنيغي» لبحوث السياسات، إلى أن المفاهيم الخاطئة حول حجم المساعدات الخارجية الأميركية عملت على تقويض الدعم المحلي للوكالة الأميركية للتنمية الدولية. فقد أظهرت استطلاعات الرأي مراراً اعتقاداً راسخاً لدى الشعب الأميركي بأن 25% من الميزانية الفيدرالية تذهب إلى المساعدات الخارجية، وأنهم يفضلون أن تكون هذه النسبة 10% فقط، وهو واقع عزّز شراسة إدارة ترامب في الدفع بالقرار.

في الواقع، الرقم الفعلي أقل من 1%، بالنظر إلى أرقام الميزانية الفيدرالية، والولايات المتحدة وإن كانت أكبر مانح في العالم للمساعدات الإنمائية، يبدو مستوى تلك المساعدات ضحلاً مقارنة بضخامة حجم الاقتصاد الأميركي ونصيب الفرد منه.

دور القوة الناعمة

على عكس المفاهيم تلك، يبدو أن المساعدات الخارجية تصب بعمق في المصلحة الوطنية الأميركية، وفق «كارنيغي»؛ لأنها تساعد في بناء دول مستقرة في وقت يتركز فقراء العالم في أربعين دولة هشة ومتأثرة بالصراعات، فالمساعدات الإنمائية قادرة على الحد من احتمالات التداعيات السلبية عبر الحدود، سواء في شكل التطرف السياسي، أو الصراع العنيف، أو الهجرة غير المنضبطة، أو الأمراض المعدية، أو الاتجار غير المشروع.

وكما أدرك وزير الدفاع الأميركي الأسبق روبرت غيتس ومسؤولون أميركيون آخرون في مجال الأمن القومي، فإن تعزيز الأمن الأميركي في عصر المخاطر العالمية يتطلب تمويلاً قوياً للوكالات المدنية، أي إعطاء التنمية والدبلوماسية نفس الاهتمام الذي يحظى به الدفاع.

ويدفع تقرير «كارنيغي» بوجود مصلحة استراتيجية للولايات المتحدة في تعزيز الفرص الاقتصادية، والرفاه الاجتماعي، والكرامة الإنسانية في الخارج. لكن، باستهدافها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، تصبح إدارة ترامب كمن يدير ظهره للعالم، غير مبالٍ بالمعاناة والتبعات التي قد تجرف مشاكل العالم إلى شواطئه.

Comments are closed.