مؤتمر جنيف.. ملهاة دولية رابعة لمأساة سورية قائمة!

لا تخرج التفاصيل المسرحية للملهاة الدولية الرابعة التي تمثلها شخصيات أممية وإقليمية وقوى سورية متضاربة ومتعارضة وموزعة الولاءات، مدينة جنيف الهانئة عن هدوئها رغم صخب الحدث العقيم.

طقس جنيف وعصافيرها وزغب أشجارها وكل ما فيها يبشّر بقرب حلول الربيع في ربوعها وبهناءة العيش بين أحضانها، لكن الملهاة السوداء الجارية في أحد أعرق قصورها والتي يشارك فيها عرب، وعجم، ومسؤولون أمميون، وإقليميون، وموالون، ومعارضون، وثوار، وأشباه ثوار، وأنصاف حكّام، لا توحي أبدا بربيع سوري قريب ولا بعهد ينهي أعراس الدم المتوالية في البلد الجريح منذ نحو 6 سنوات.

المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا، ستيفان دي ميستورا، لم يجد حولا ولا قوة، سوى دعوة السوريين إلى المصافحات، فغرّد قائلا: “ربما رأيتم بعض المصافحات، إن الشعب السوري في حاجة إلى هذه المصافحات، من أجل حل هذا النزاع” على الرغم من أن السلام في هذا البلد الذي يشهد حروبا دموية طاحنة تديرها مصالح دولية متناقضة ومتشابكة، لا يمكن أن تصنعه المصافحات بالأيادي وإغداق القبلات والأخذ بالأحضان.

الأمم المتحدة التي تتولى بواسطة جهاز أممي مكلف التوسط لحل الأزمة السورية تصرف عليه ملايين الدولارات، لا تمتلك جدول أعمال واضحا لمؤتمر جنيف، ولا مبادئ خطة عمل للخروج من النفق، ولا حتى خارطة طريق تحضّر للوصول إلى جنيف قبل الدخول في معمعة المحادثات والمهاترات والتصاريح والتصاريح المضادة، لذك اكتفى ممثلها بالقول إنه سيواصل تشجيع أطراف “الأزمة السورية على إقامة الحوار بينها”، مع إضافة تعهده بالاستمرار “بتحفيز المشاركين في المفاوضات للمضي قدما في تحقيق جميع أحكام القرار 2254، ولتحقيق التوافق بين كيانات المعارضة”، مشددا في الوقت ذاته، على أنه لا يقوم إلا بدور الوسيط المحايد. وهو بالفعل مبعوث أممي مجرّد من الأدوات والأسلحة الدبلوماسية، إذ لم يضع لا مجلس الأمن ولا أي جهة دولية فاعلة بتصرفه أي سبب من أسباب القوة والضغط يعينه على خوض غمار مهمته الصعبة إلى حدّ الاستحالة في خضم المواقف الدولية المتلاطمة والمتناقضة!.

قبل هذا المبعوث الأممي الخاص، خاض الأمين العام السابق كوفي أنان، والدبلوماسي الجزائري الدولي الأخضر الإبراهيمي، غمار مغامرة البحث عن حلول للأزمة السورية فاضطرا للاستقالة بعد اصطدامهما بالأبواب الدولية الموصدة أمام الحلول في سورية، على أقلّه حتى اللحظة الراهنة، لذلك لم يكن مستغربا أن يصدح دي ميستورا بمرارة قائلا إنه: “لا يتوقع معجزة من هذه المفاوضات” موضحا بصوت لا يخلو من القلق أن هناك “خلافات كثيرة جدا” ليس فقط بين الموالاة والمعارضة في سورية، وإنما بين أطراف المعارضة المتعددة الأهواء والمشارب والمصالح والولاءات.

لذلك تغنّى دي ميستورا بإنجازه اليتيم وربما الوحيد حتى الآن، فصرّح قائلا بأن “تقدما كبيرا تم إحرازه خلال الأسابيع، وحتى ربما الساعات الماضية، لتشكيل وفد موحد وشامل من المعارضة السورية”، معتبرا أن قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 “يحدد بشكل دقيق من يجب أن يشارك من المعارضة في هذه المفاوضات” التي تشبه جعجعة سوق عكاظ.

وإذا كانت الحكومة السورية سمّت وفدها بهدوء ودون كثير عناء، فإن المعارضات السورية انشغلت بالاشتباك على الجبهة السياسية، في حرب لاقتناص أحقية تمثيل منصاتها وفصائلها وما أكثرها إلى مفاوضات جنيف 4، فأعلنت القوى السياسية المعروفة باسم “منصة موسكو” أنها لن تقبل أن تكون تحت وصاية معارضة الرياض التي لن تخرج من دائرة التأثير الخارجي ولن يكون لها مشروع وطني مستقل عن الأجندات الخارجية.

واتهمت رئيسة لجنة منصة “أستانا” للمعارضة السورية، رندا قسيس، المبعوث الأممي إلى سوريا بعدم الجدية، بسبب تعويله على الهيئة العليا للمفاوضات في تشكيل وفد المعارضة السورية إلى محادثات جنيف، وعابت على الهيئة عدم تمكنها من تشكيل وفد موحد يضم منصتي القاهرة وموسكو، مجددة تأكيد فاتح جاموس على أن المنصات الأخرى لا يمكنها القبول بأن تكون تحت رئاسة أحد ممثلي منصة الرياض.

أما جهاد مقدسي، رئيس منصة القاهرة للمعارضة السورية فأكد، أن مجموعته لن تنضم إلى الوفد المفاوض في جنيف الذي شكلته الهيئة العليا للمفاوضات التابعة للائتلاف الوطني، المنبثقة عن منصة الرياض للمعارضة. وقال بأن مجموعة القاهرة للمعارضة السورية اقترحت تشكيل الوفد المفاوض إلى جنيف 4 على أساس المنصات الثلاث، من القاهرة وموسكو والرياض، لكن الهيئة العليا رفضت تلك الصيغة.

باختصار هذا هو واقع تشرذم وتضارب وتناهش المعارضات السورية التي تشبه عارضات الازياء أكثر من الثوار، مع أنها تسمي نفسها معارضة “معتدلة”، فكيف سيكون الحال فيما لو دعيّت المعارضات الأقل اعتدالا والأكثر رعبا ودموية؟!.

ربما تكون روسيا واحدة من الدول القلائل التي تملك رؤية وأفكارا أوليّة للحل السياسي في سوريا، وهذا ما بدا في الموقف الذي عبّر عنه  الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالتزامن مع انعقاد مؤتمر جنيف الذي تمنى له كل نجاح، وقدّم تصورا واضحا للأهداف المتوخاة منه، والمتمثلة بمنع أي تدخل خارجي في سوريا لدى حل مسألة الحفاظ على وحدتها، مشيرا إلى أن هدف موسكو في سوريا هو حماية السلطة الشرعية ومحاربة الإرهاب هناك.

الدبلوماسية الروسية كانت وما تزال تدعو لعدم التدخل في شؤون سوريا الداخلية ، عملا بمبادئ القانون الدولي التي تحترم سيادة الدول واستقلالها وحقها في إدارة شؤونها. وقد أكد الرئيس بوتين على ذلك بقوله أن موسكو لا تنوي التدخل في شؤون سوريا، مشيرا الى أن “الوضع هناك معقد، لكن كلما كان انتقال البلاد إلى تسوية سياسية سريعا، كلما ازدادت فرص المجتمع الدولي للقضاء على عدوى الإرهاب في أرض سوريا، وهي مصلحتنا الحيوية. لكننا لن نتدخل في شؤون سوريا الداخلية، ولا يجب أن نفعل ذلك، وليس هذا هدفنا، فكل هدفنا هو ضمان استقرار السلطة الشرعية وتوجيه ضربات قاضية إلى الإرهاب الدولي، وهذه هي نقطة انطلاقنا في بلورة أهدافنا”.

وأضاف: “نحن نعرف سوريا كدولة علمانية متعددة القوميات والطوائف الدينية. باتت هكذا على مدار عقود طويلة، وكان ذلك ضمانا لوحدة أراضي هذه البلاد، وهذا ما سنسعى إليه، مع أن القرار الحاسم يعود إلى السوريين أنفسهم”.

وشدد الرئيس الروسي على ضرورة عمل ما يمكن عمله لمنع أي تدخل خارجي في سوريا لدى حل مسألة الحفاظ على وحدة أراضي البلاد.

لو نطق أي مسؤول أممي أو رئيس دولة، أو حتى دي ميستورا نفسه بالقليل القليل مما تعلنه موسكو ودبلوماسيتها الناشطة والرئيس بوتين شخصيا، وخاصة فيما يتعلق بمنع أي تدخل خارجي في سوريا والسعي للحفاظ على وحدة أراضي البلاد، لكان من الممكن القول أن زعماء العالم وقادته الذين يملأون أثير الفضائيات بتصريحاتهم الرنانة عن قلقهم على الشعب السوري وآسفهم للدم المراق هناك صبح مساء، أصبحوا يمتلكون بعض أفكار وأسس أولية لمباديء للخروج من النفق السوري المظلم، لكن كل الكلمات والتعليقات والدعوات التي سبقت افتتاح مؤتمر جنيف وألقيت خلاله، لم تحمل أي جديد، لأنها عبارات قديمة وممجوجة لا تسمن ولا تغني عن جوع ولا تساهم في اجتراح حلول.

سنونوة واحدة لا تصنع الربيع، لذلك فإن مساعي روسيا ومواقفها وأفكار رئيسها الواضحة  والنزيهة، لا تكفي وحدها لبعث بشائر ربيع السلام إلى سوريا، وإن كانت أكثر من ضرورية لحثّ الآخرين على تبني إعلان مبادئ يشكّل خارطة طريق تساعد على رؤية بهق ضوء خافت في النفق السوري المظلم.

كل المخلصين يتمنون النجاح لأي جهد يسهم ولو بالقليل القليل في وقف النزيف السوري، إلا ان الوقائع والتصريحات تشير الى أن مؤتمر جنيف الرابع ليس أكثر من حلقة في مسلسل ملهاة دولي يعتاش على حساب المأساة السورية القائمة منذ 6 سنوات.

لذلك، كل جنيف وأنتم  بخير.. وعمتم مساء وليس دماء!

سعيد طانيوس  – RT

Comments are closed.