مجرمون يستحقون المحاكمة

عنوان مقالي اليوم مقتبس مع التعديل من تصريح سابق لقائد قوات الاحتلال الأميركي في العراق عام 2007 ريكاردو سانشيز، الذي وصف الساسة الأميركيين بأنهم فاسدون، ويستحقون المحاكمة، وبالطبع كلام سانشيز جاء على خلفية الأكاذيب والاتهامات المتبادلة، التي كانت آنذاك بين القيادات الأميركية حول احتلال العراق وغزوه، الذي تبين لاحقاً أنه قام على أكاذيب ومعلومات ملفقة، وهو أمر سأعود إليه لاحقاً.

لكن مناسبة تذكّر حرب العراق، ترتبط هذه الأيام بما نشرته صحيفة «ديلي ميل» البريطانية في 25 تشرين الثاني 2019 حول البريد الإلكتروني المسرب، الذي كشف أن منظمة حظر الأسلحة الكيميائية تلاعبت بتقرير حول هجوم كيميائي مزعوم في مدينة دوما، قرب دمشق في نيسان 2018، وأشارت إلى أن أحد العلماء الذين شاركوا في التحقيقات على الأرض في دوما أفاد بأنه لم يتوصل إلى دليل قوي حول وقوع هجوم الغاز المزعوم، وأشار إلى أنه تمّ إخفاء الحقائق بشكل متعمّــد في تقارير المنظمة، ويفيد البريد الإلكتروني المسرب إلى أن الأدلة التي جُمعت في دوما وتمّ فحصها لا تدعم نسخة التقرير الذي تبنّته المنظمة رسمياً، وأن المنظمة أعادت صياغة التقرير إلى الحدّ الذي تمّ فيه تحريف استنتاجاته «أي تزويرها»، وحسب الصحيفة البريطانية التي استندت إلى البريد المسرب أن المنظمة في تقريرها أخفت حقيقة أن آثار الكلور التي زعم العثور عليها في الموقع كانت مجرد عناصر ضئيلة للغاية بمعدل أجزاء في المليار، وفي أشكال يمكن العثور عليها في أي مواد تبييض منزلية، كما أخفت المنظمة في تقريرها الرسمي ما قاله الخبراء من أن الأعراض التي تظهر في مقاطع الفيديو لا تتطابق ببساطة مع الأعراض التي كان يمكن أن تحدث بسبب مادة كيميائية، ومن جانب آخر أعلنت مؤسسة الشجاعة الدولية أن لجنة من الخبراء لديها وبعد اطلاعها على شهادة المعلومات الأساسية حول التحاليل الكيميائية والسُمية، ودراسات المقذوفات، وشهادات الشهود، ورسائل البريد الإلكتروني الداخلية، أن نتيجة التحقيقات تقوم على استنتاجات مسبقة، وأنّ ملاحظات الخبراء لم تؤخذ بالاعتبار، وطالبوا بالسماح لهؤلاء الذين شاركوا بالتحقيق إعطاء ملاحظاتهم حسب قوانين الأطراف المشتركة في اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، وبهدف استعادة مصداقية المنظمة، وكان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قد وصف المنظمة بالسفينة «تايتنك» في طور الغرق، واتهمها بالمبالغة في تسييس عملها، ويترافق ذلك مع معلومات نشرتها وزارة الدفاع الروسية قبل أيام تفيد بأن جبهة النصرة تحضّر لهجمات كيميائية لاتهام الحكومة السورية وموسكو بهذه الهجمات، وبالطبع فإن ذلك هدفه الضغط على دمشق وموسكو مع انعقاد المؤتمر العام لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، ويبدو أن تقرير الخبراء جرى التلاعب به من المدير العام السابق التركي أحمد أوزومجو، كما أن المدير العام الحالي فرناند أرياس دافع عن تقرير المنظمة بشأن الهجوم المزعوم في دوما خلال افتتاح أعمال المؤتمر العام للمنظمة قبل أيام.

ما أود التذكير به هنا أن أول هجوم مزعوم بالكيميائي جرى في 21 آب 2013 في الغوطة الشرقية، وترافق ذلك مع هجوم إعلامي غير مسبوق، بهدف شيطنة الحكومة السورية التي كانت تستقبل آنذاك وفداً من منظمة حظر الأسلحة الكيميائية على بعد كيلومترات من مكان الحادثة، ومع ذلك لم تتم تحقيقات بهذه الحادثة، لكن الصحفي الاستقصائي الأميركي سيمور هيرش نشر في 17 نيسان 2014 مقالاً مهماً للغاية في مجلة «لندن ريفيو أوف بوكس» تحت عنوان «خط الجرذان– والخط الأحمر»، وكشف هيرش في مقاله أن الاستخبارات الأميركية والبريطانية كانت على علم منذ عام 2013 وما قبل أن تنظيمات متطرفة تطور أسلحة كيميائية، وأنّ تقريراً لوكالة الاستخبارات الدفاعية الأميركية أكد أن «جبهة النصرة تنتج غاز السارين، وأنّ السارين الموجود لدى تنظيم القاعدة «النصرة» هو الأكثر تقدماً منذ أحداث 11 أيلول 2001».
وأوضح هيرش أن معلومات سرية لدى الوكالة الاستخبارية الأميركية تفيد بأن «تركيا والسعودية أمنتا السارين بكميات كبيرة بعشرات الكيلو غرامات، وبذلت الجهود لإنتاجه في سورية»، وللتذكير فإن خلية تابعة للنصرة اعتقلت في أيار 2014 في تركيا، كان بحوزتها كيلوان من السارين، ومواد تصنيع أخرى، وتمّ إطلاق سراح خمسة من هذه الخلية لاحقاً، وطبعاً حادثة الغوطة الشرقية كان لها هدف آنذاك حسب ما قال مسؤول استخباراتي أميركي سابق لهيرش: «إنّ أولئك الذين يسعون إلى جرّ الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما للحرب قاموا باستخدام غاز السارين داخل سورية لاتهام النظام بأنه قطع الخطوط الحمراء»، وهذا لا يعني أن أوباما كان بريئاً، وإنما تردد نتيجة تقديرات العسكريين الأميركيين بأن الأدلة ليست قاطعة، إضافة إلى موقف مجلس العموم البريطاني الذي رفض المشاركة في أي حرب على سورية، ولكن الرئيس الأميركي دونالد ترامب وشركاءه في فرنسا وبريطانيا شنّوا عدواناً على سورية إثر حادثة دوما في نيسان 2018 قبل أن تصدر أي نتائج للتحقيقات في الهجوم المزعوم.
أقول إن هناك خشية على حياة العالم الذي شكك في مصداقية التقرير النهائي حول حادثة دوما في نيسان 2018، والذي فضح التزوير الذي مارسته المنظمة في تقريرها النهائي، وأقول هذا لأنه في 18 تموز 2003، وجدت الشرطة البريطانية العالم البريطاني ديفيد كيلي مقتولاً في منطقة ليست بعيدة عن منزله، وقيل آنذاك إنه انتحر، ولكن مصادر عديدة تقول: تمت تصفيته من المخابرات البريطانية على خلفية تسريبه معلومات للصحفي البريطاني أندرو جيليغان الذي يقدم برنامج «توداي» في «بي بي سي»، أشار فيه إلى أن الحكومة البريطانية بالغت في المعلومات حول خطورة امتلاك العراق أسلحة بيولوجية لإقناع الشعب البريطاني بضرورة شن الحرب على العراق، الأمر الذي أدى لاتهام كيلي بتسريب المعلومة ومثوله أمام لجنة استماع برلمانية في 15 تموز 2003.
بالطبع نحن نتحدث عن عصابات تقود دولاً، فوثائق حرب العراق تفضح بشكل كبير عقلية هؤلاء، كما الحال بالوثائق الخاصة بما يسمى كيميائي سورية، ذلك أن كبير مفتشي الأسلحة السابق سكوت ريتر اعترف بأن غزو العراق تمّ من أجل تدمير أسلحة الدمار الشامل التي لا وجود لها، وأنّ الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن قد نشر في تموز 2016 مذكراته التي أكد فيها كذب التقارير الاستخباراتية، وقبله رئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير أقرّ بمسؤوليته الكاملة عن غزو العراق، وأما وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس فقد أقرّت بإحدى جلسات الاستماع في الكونغرس بقولها: «نعرف الآن أن الكثير من تقييمات المخابرات كانت خاطئة، وسأكون أول من يقول إنها لم تكن صحيحة»، ولكن مدير «سي آي إيه» جورج تينت قال في كتاب نشره تحت عنوان «في عين العاصفة» إن القيادات الأميركية جعلته يبدو كـ«أحمق»، وإنّ نائب رئيس الولايات المتحدة الأميركية السابق ديك تشيني حوّله لكبش محرقة، حيث حمّله الجميع المسؤولية معتبراً «أنّ من أكثر الأمور حقارة ما تعرض له في حياته».
الحقيقة أن الوثائق كثيرة والكتب عديدة، فيما يخص غزو العراق واحتلاله، أو ما يخص الحرب التي تستخدم فيها كل أدوات الفاشية الجديدة ضد سورية دولةً وشعباً ورئيساً، فالهدف من اتهامات الكيميائي هو امتلاك أوراق ضغط، ومساومة سياسية، كما حصل في اتهام سورية باغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري، وهو أمر ستتكشف تفاصيله لاحقاً مع إخفاق وسقوط أدوات العدوان على سورية، ومع تعاطي الدولة السورية الحكيم والدبلوماسي مع هذه الملفات التي تؤكد أن من نواجههم فعلاً مجرمون، ويستحقون المحاكمة، وأنهم قتلة بكل معنى الكلمة، والأدهى من ذلك أن هناك سوريين يسيرون ويعملون لمصلحة هؤلاء المجرمين الدوليين، بصفة عملاء، وخونة، وما عرضته ليس سوى رأس جبل الجليد لهؤلاء الذين يدّعون الحرص على بناء ديمقراطية وحريات ومستقبل زاهر لشعوب المنطقة، أما آن لأولئك المسطحين فكرياً، المتعلقين بسحر الغرب أن يدركوا أنهم واجهات لمجرمين وقتلة ليس إلا، وليعذروني لأنني أعرف أكثر من ذلك، ولم نعد نخدع بشعارات هؤلاء أبداً، والعديد من القيادات في الغرب ليست نماذج للاقتداء بها، فهم مجرمون يستحقون المحاكمة.

د. بسام أبو عبد الله

اكاديمي سوري

Comments are closed.