كانت الأسابيع الماضية، عشية الموعد المحدد لاستئناف المفاوضات في شأن الملف النووي الإيراني، حافلة بتبادل التهديدات بين إسرائيل وإيران، وبرسائل ملتبسة تبادلتها الولايات المتحدة الأميركية مع خصومها في طهران، وبجهود بذلتها “ترويكا” الأوروبية من دون نجاح كبير، وبتعاطف روسي مع الشريك الإيراني لم يبلغ حد التفوق على حسابات القيصر الروسي الأميركية الأخرى.
خففت أميركا من معنى الصدامات في الخليج العربي وبحر عُمان، وانتظرت الوقت المناسب للرد على قصف قاعدتها في “التنف” السورية، وبدبلوماسية فائقة تعاملت مع محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، وتأجيج الميليشيات الموالية لإيران الشارع العراقي ضد نتائج الانتخابات العامة، وفي أنحاء أخرى من المنطقة راقبت مع إبداء قلق تقليدي تصعيد أنصار طهران حربهم في اليمن، واعتداءاتهم ضد الجار العربي الأكبر، وأثنت على تشكيل حكومة لبنانية قامت بشروط حلفاء إيران و”وئدت” سريعاً بقرار منهم.
كان واضحاً أن واشنطن تفعل المستحيل من أجل العودة للاتفاق النووي الذي خرجت منه بقرار من الرئيس السابق دونالد ترمب، ولأن رغبتها هذه غلبت على سياساتها، مارست إيران أقصى الضغوط، بدءاً من تأخيرها العودة للتفاوض ووصولاً إلى محاولة فرضه بشروطها الخاصة المسبقة وسط حملة توتير واسعة استعملت فيها أذرعها على امتداد المنطقة.
لوحت الولايات المتحدة بخيارات أخرى تحت إلحاح مباشر من الحليف الإسرائيلي، إلا أنها لم تظهر فعالية تلك الخيارات، وتركت الباب مفتوحاً للوساطة أمام “ترويكا” الأوروبية والوكالة الدولية للطاقة الذرية التي حملت الزيارة الأخيرة لمديرها العام رافائيل غروسي إلى طهران أنباء غير سارة.
اشترطت إيران رفع العقوبات بشكل كامل عنها، ورفضت البحث في مشروعها الصاروخي وتمددها في البلدان المجاورة، ولم يتضح مدى حرص مفاوضيها على التمسك ببحث البندين الأخيرين، غير أن تعاملها مع وفد وكالة الطاقة المعنية مباشرة بالمشروع النووي أعاد الشك في نياتها تجاه الموضوع الأصلي الذي بدأت المفاوضات من أجله، وهو حقيقة السعي إلى امتلاك سلاح نووي.
تقول “وول ستريت جورنال” إن طهران اقترحت على غروسي خلال زيارته إليها قبل أيام صفقة جوهرها السماح لموظفي الوكالة بالدخول إلى منشأة كرج مقابل تعليق جزئي لتحقيقات وكالة الطاقة في المواد النووية المكتشفة في إيران عام 2019، غير أن مواقف غروسي إثر الزيارة أظهرت عدم إحرازه تقدماً، مما جعل الأوروبيين يحذرون إيران من التلاعب، وهم الذين تراهن عليهم للوقوف في صفها، وإغرائهم باستثمارات يتيحها وقف العقوبات.
اليوم يفترض أن تستأنف جولة التفاوض السابعة بعد شهور من توقفها، لكن المواقف الإيرانية الأخيرة لا تنذر بفشلها وحسب، بل باحتمال عدم انعقاد جلسة التفاوض من الأساس.
الفشل والنجاح يتساويان في نتائجهما في نظرة غالبية شعوب المنطقة العربية إلى المفاوضات، ما دامت لا تتطرق إلى وضع حد للتدخلات الإيرانية في شؤونها. في المقابل، اختارت إسرائيل البقاء تحت مظلة المسعى الأميركي إلى اتفاق يمنع إيران من إنتاج سلاح نووي، مع احتفاظها بـ “حقها” في ضرب إيران إذا ما تقدمت في مشروعها الذري.
لم تخف إسرائيل استعدادها لقتال إيران. صعدت لهجتها وكشفت استعداداتها.
قال رئيس أركان جيشها أفيف كوخافي إن الجيش “يكثف استعداداته لهجوم محتمل على المنشآت الإيرانية”، وأكد وزير الأمن بيني غانتس أن إسرائيل لن “تسمح لإيران بالمساس بتفوقها في المنطقة”. وعلى امتداد الأسابيع الماضية أجريت مناورات كثيفة بين الجيش الإسرائيلي وشركائه استعداداً للاحتمالات كلها.
في المقابل، واصلت إيران تهديداتها بإنهاء إسرائيل وتدميرها وإزالتها من الوجود، ويستمر إطلاق هذا الخطاب منذ 40 سنة، وآخر أشكاله أن ذلك لن يستغرق سوى سبع دقائق ونصف الدقيقة، أما في التصريحات المُحدثة فإن العميد أمير علي حاجة زادة قائد القوات الجوية للحرس الثوري وعد بأن بلاده “ستدمر الكيان الصهيوني في حال بادر إلى شن حرب، وإذا ارتكب أي حماقة فلن يرى النور بعدها وسيتم استعجال هلاكه تاريخياً”.
لم يتوقف تبادل التهديد بين الطرفين على وقع انعقاد الاتفاق النووي وفي غيابه أو في محاولات التفاوض من أجله مجدداً. في الأثناء، جعلت إسرائيل من إيران عدوها الأكبر، استهدفت في “معركة بين حربين” وجودها في سوريا، ونشطت في عمليات اغتيال وتخريب داخل أراضيها، وتحركت بكامل قدراتها في العالم لمحاصرة بلد المشروع النووي الجديد بما في ذلك إقامة علاقات مع الدول العربية التي عانت بدورها من التخريب الإيراني. لكن إسرائيل، في الوقت عينه، استمرت في الالتفاف على مطالب الشعب الفلسطيني الذي تحتل أرضه وتمنع عنه حقه بالدولة المستقلة، وبدت حملة الدولة العبرية على إيران في بُعدها الآخر وكأنها تغطية على قمعها الفلسطينيين ورفضها الانخراط في مفاوضات سلام جدية معهم.
في المقابل، تلعب إيران لعبة مماثلة، فهي باسم الدفاع عن فلسطين ورفع راية العداء لإسرائيل تخترق العالم العربي بمشروعها المذهبي، وتسيطر على عواصم أربع، وتؤجج الانقسام الفلسطيني الذي رأى فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال استقباله الرئيس الفلسطيني محمود عباس أخيراً، أكبر إساءة إلى المشروع الوطني وعائقاً أمام التسوية والسلام العربي – الإسرائيلي.
بمعزل عن مآلات مفاوضات فيينا، لن يتغير كثير في علاقات المنطقة وأدوار لاعبين رئيسيين فيها، وستبقى إسرائيل حاملة لواء التخويف والحرب مع إيران كتغطية لتجاهلها مشكلة فلسطين، وستبقى إيران رافعة لواء فلسطين تغطية لمشروعها التوسعي في المشرق والجزيرة العربية، وهذه إحدى تجليات مشكلة المنطقة المكتوب لها استمرار القلق والتوتر.
***
علامي وكاتب ومحلل سياسي لبناني
Comments are closed.