المحور الصيني – الروسي و”القلعة الآسيوية”

يجهد المحللون والإعلاميون في واشنطن وبروكسل لاستشراف وضع المعادلة الروسية – الصينية، لا سيما مع اندلاع حرب أوكرانيا منذ عام، لمعرفة السيناريوهات الممكنة خلال السنة الثانية لهذه الحرب، ولفهم عمق العلاقة بين القيادتين الصينية والروسية تجاه الملفات الدولية عامة، والتحركات الغربية بخاصة. ونسمع من عديد من المعلقين والأكاديميين والمسؤولين السابقين على ضفتي الأطلسي أن للصين أجندة خاصة بها مختلفة عن الأجندة الروسية، ولها مصالح مختلفة عن روسيا، وربما يعتقدون أنه قد تتلاقى هذه المصالح مع أهداف الغرب في إعادة تموقع تجاري اقتصادي، لذلك نسمع كثيراً عن توجهات ضمن الإدارة الأميركية، وليس بالضرورة الكونغرس، لتخفيف حدة أية أزمة مع بكين، وفصلها عن مسألة أوكرانيا. ومما عزز هذا التوجه لدى الإدارة وأنصارها إعلان الصين عن عزمها لعب دور “الوسيط” بين موسكو وواشنطن لإيقاف الحرب. فخلص البعض إلى أن الحزب الشيوعي الصيني قد خرج عملياً من شراكته مع الكرملين وتمركز في الوسط ليستفيد من المعسكرين.

موقع الوسيط

هذا ما قد يظهر على السطح، ولكن هل تخلت الصين فعلاً عن شريكتها أم أنها تتحرك لتحافظ على أسواقها، بينما تبني شيئاً آخر مع روسيا؟ تواجه قيادة الرئيس شي جينبينغ همّين، الأول هو أن الاقتصاد الصيني الجديد بات معولماً ومترابطاً مع المنظومة الاقتصادية والمالية الدولية (Interdependent)، لذا فأي صدمة تحدثها بكين للمنظومة الغربية سياسياً قد ترتد عليها اقتصادياً، بالتالي فالاندفاع لمساندة روسيا علناً وجهاراً لمواجهة العقوبات الأميركية والأطلسية بشكل غير مدروس، أمر تتفاداه القيادة الصينية الآن، كي لا تتعرض لحملة عقوبات غربية تطيح سوقها الدولي. فهي تعتمد على فتوحات مالية في الغرب والقارات الأخرى، ولا تبغي خسارتها بسرعة.

أما الهم الثاني للرئيس شي ومكتبه السياسي فهو رؤية روسيا تتراجع وتخسر الحرب في أوكرانيا، لأن ذلك سيؤدي إلى استضعاف موسكو إلى حد نقل “الفوضى” إلى داخل روسيا نفسها، وصولاً إلى إخراجها من دائرة الصراع الدولي. والقيادة الصينية تعرف تماماً ما سيحصل إذا حصل انهيار روسي، فسيلحقه في نظرها تطويق أقوى للصين من قبل غرب “منتصر”، الذي سيتكتل ضدها لإخراجها من أسواقها في أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا، لذلك فالصين، وإن نمقت خطابها في هذه المرحلة، فهي لن تخرج من المحور الصيني – الروسي، بل بالعكس، ستكون في موقع أكثر قوة في تحديد استراتيجيته. فما ملامح استراتيجية المحور في هذه المرحلة؟

“قلعة آسيا”

إذا تمعنا في تحركات روسيا والصين منذ بداية 2021، أي منذ خروج دونالد ترمب من البيت الأبيض، فهي تشير إلى تعبئة وتقدم جيو سياسي وباليستي، وهذا التصرف الجديد الذي تصاعد بعد دخول الرئيس جو بايدن إلى المكتب البيضاوي، دل على قيام (أو تكاتف) كتلة دولية قارية لكسر احتكار أميركا والغرب للقرار الدولي، بحسب منظارها. وقام المحور بتوسيع “حلقته الحمراء”، أي أركانه من الصف الثاني، بنسج علاقات عميقة مع “جمهورية كوريا الديمقراطية” في شرق آسيا و”الجمهورية الإسلامية” في إيران بغرب آسيا.

والآن، تضم الحلقة الحمراء قوتين عالميتين نوويتين، وقوتين إقليميتين صاروخيتين على وشك أن تتحولا إلى نوويتين. ومع أن هذه التركيبة كانت موجودة منذ أكثر من عقد، بما في ذلك ثماني سنوات خلال فترة باراك أوباما، فقد أعادت إطلاق أجندتها بشكل أوضح في بداية عهد بايدن. وتوالت الوثبات الواحدة بعد الأخرى، فعادت إيران إلى تشديد شروطها للعودة إلى الصفقة مع واشنطن، وكثفت نشر صواريخها في الهلال الخصيب. وعادت بيونغ يانغ إلى إطلاق الصواريخ الباليستية عبر المحيط الهادئ، ووسعت الصين تحركاتها العسكرية في المياه الدولية، وعقدت اتفاقات استراتيجية مع جزر ودول في منطقة الباسيفيك، جاعلة منها “قواعد محتملة” للصين على مقربة من أستراليا، وكثفت روسيا وإيران زيارات قطعها البحرية إلى أميركا اللاتينية، ووسعت الصين وروسيا وجودهما الأمني التجاري في أفريقيا، واللائحة تطول. وقد لاحظنا أن تحركات لواشنطن تحت إدارة بايدن أرسلت بإشارات إلى الكتلة الآسيوية فسرت كتراجع أميركي وغربي. أولاً كان حذف الحوثيين من لائحة الإرهاب في أول شهر بعد تسلم الإدارة الجديدة، وقد عنى ذلك أن الإدارة الجديدة لن تواجه إيران، وستمنع حلفاءها من الحسم ضد طهران. ثانياً، وأكثر دراماتيكية، كان الانسحاب الكارثي من أفغانستان في أغسطس (آب) 2021، حيث قرأته دول الكتلة المضادة على أنه انسحاب أحادي أميركي من قلب القارة الآسيوية، وضوء أخضر لمحور روسيا – الصين – إيران، بالتقدم.

نتائج أوكرانيا

كما كتبت في الماضي، الهجوم على أوكرانيا كأنه جاء بعد تقييم لاستراتيجيات إدارة بايدن من قبل الكرملين، وملخصه أن الولايات المتحدة سترد بعقوبات ودعم لوجيستي، ولكنها لن تتدخل بقواتها مباشرة، مما يعني أن روسيا قد تبقي سلطتها على جزء، ولو محدود، ولكن مهم من أوكرانيا. تقييم كهذا، والذي توصلت موسكو إليه في 2022، شد عصب “المحور” الذي بدأ يتحرك على أساس بناء قلعة هائلة في قارة آسيا تمتد بين محيطين والبحر المتوسط، تحدها مياه القطب الشمالي وسواحل آسيا المقابلة لأميركا الشمالية، وتعود وتمتد على شواطئ إيران على المحيط الهندي، وساحل اليمن على البحر الأحمر، فمياه شرق المتوسط من سوريا. لذا فمنطق المحور يقول “إذا لم تزج أميركا قواتها في أوكرانيا فلن تزجها في مكان آخر في آسيا”. هكذا بدا لقوى المحور أن أميركا ستحمي الغرب وبعض حلفائها المباشرين كاليابان وكوريا الجنوبية وإسرائيل، ولكن باقي الدول في مهب الريح.

المحايدون

إضافة إلى ذلك، إن حرب أوكرانيا أنتجت أزمة اقتصادية عالمية، ولا سيما على صعيد الطاقة، مما أدى إلى تطور ملحوظ على صعيد سياسات الدول المعتدلة في آسيا، التي اتجهت لمواقع أكثر حيادية بين واشنطن وموسكو، فرأينا كيف صوتت بعض هذه الدول المهمة باتجاه متأنٍّ ودقيق، كل على قياس أجنداته. فرفضت الهند مخاصمة روسيا في الأمم المتحدة والتصويت ضدها، دافعة ملياراً من سكانها للتموقع بموازاة المليار الصيني، وكذلك فعلت باكستان وبنغلاديش، فنمت الكتلة الآسيوية المحايدة بشكل كبير، كما شاهدنا الدبلوماسية الخليجية تتنقل بين موسكو وكييف للعب دور الحكم بقدر المستطاع. هكذا، بين أعضاء المحور والمحايدين باتت آسيا وكأنها تميل إلى الثنائي الصيني – الروسي، وإن بتفاوت.

هذا ما تبغيه روسيا والصين، ليكون أرضية للحوار مع أميركا وأوروبا من موقع متوازن جديد، بحسب ظنهم، و”القلعة الآسيوية” لها أيضاً شركاء، وبخاصة في أميركا اللاتينية وأفريقيا، تسعى إلى تحويلهم لقلاع مثيلة، ولو أصغر حجماً، بالتالي أمام الاستراتيجية الصينية – الروسية المتوسعة، فإن واشنطن وبروكسل لن تقفا مكتوفتي الأيدي أمام معادلة تتوسع كهذه. وإذ يبدأ الكونغرس بمراجعاته الكبرى لسياسات العامين الماضيين، ستجد الإدارة نفسها أمام تحدٍّ كبير، إما أن تعدل استراتيجيتها تجاه هذا المحور جذرياً، وإما أنها قد تشهد أزمات متتالية في العامين المقبلين.

وليد فارس

اكاديمي وسياسي

الولايات المتحدة الامريكية

Comments are closed.