الغائب الأكبر عن لقاء القمّة الذي انعقد اليوم في موسكو بين الرئيسين الروسي والسوري هو الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، لأن نتائج هذه القمّة قد تكون حاسمة في استمراره وحزبه في السلطة، او خروجه منها، ولهذا لا نستبعد انه ينظر بين الحين والآخر الى هاتفه الرئاسي منتظرا مكالمة مطمئنة، او غير مطمئنة، من قبل الرئيس الروسي تُبشّر بلقاء القمة الثلاثي المنتظر، وعلى أحر من الجمر، بينه وبين الرئيس بشار الأسد برعاية “بوتينية” في الأسابيع القليلة المقبلة، وقبل الانتخابات الرئاسية والتشريعية التركية في أيّار (مايو) المقبل.
مبادرة الرئيس الصيني تشي جين بينغ أدت الى تقارب بين أكبر دولتين في “الشرق الأوسط”، أي المملكة العربية السعودية وايران، وها هو حليفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يريد اكمال الدائرة وتحقيق التقارب والمصالحة بين القطبين الغربيين الأبرز فيه، أي سورية وتركيا، وحل جميع الخلافات العالقة بينهما، واذا حقق الرئيس الروسي النجاح المأمول في هذا الملف، فإنه يوجه صفعة هي الأقوى للولايات المتحدة، ويكمل الخطة الروسية الصينية بإجتثاث نفوذها من جذوره العميقة في منطقة الشرق الأوسط، حيث النفط والغاز والثروة والمستقبل.
القضية الأهم التي تتربع على جدول أعمال قمة الرئيسين الروسي والسوري هي استئناف العلاقات التركية السورية، على أرضية الإستجابة مع شروط الدولة السورية، وأبرزها الانسحاب التركي الكامل من جميع الأراضي السورية، وإجتثاث الإرهاب، وعودة حوالي 4 ملايين لاجئ سوري لجأوا الى تركيا في بداية الحرب على سورية، أما القضايا الأخرى مثل إعادة الإعمار، وزيادة حجم التعاون الاقتصادي فتظل قضايا ثانوية.
تركيا وايران حليفتا الطرفين الروسي والسوري، يراهنان، بل ويعملان على فوز الرئيس أردوغان وحزبه (العدالة والتنمية) في الانتخابات القادمة، ومن خلال بوابة المبادرة الروسية، الأمر الذي يعني القضاء شبه الكامل على النفوذ الأمريكي في المنطقة، وقطع الطريق على عودة المعارضة السداسية بزعامة حزب الشعب الجمهوري برئاسة كمال كليتشدار أوغلو الذي يعتبر في نظرهما حليف أمريكا والغرب الى الحكم.
شعبية الرئيس أردوغان وحزبه “تتضعضع” بشكل متسارع كلما اقترب موعد الانتخابات، وجاء الأداء “غير الجيد”، المليء بالثقوب، لحكومته في التعاطي مع كارثة الزلزال، وتراجع الاقتصاد وأسعار الليرة تحديدا، ولهذا يحتاج الى الاتفاق مع سورية بأي ثمن للتخلّص من اللاجئين الذين أصبحوا ورقة مهمة في أجندات المعارضة، بإعادتهم الى بلادهم، وقطع الطريق على أحزاب المعارضة التي تعهّدت للرئيس السوري، في رسالة رسمية، بالانسحاب الكامل، وإعادة اللاجئين، وقطع كل العلاقات مع المعارضة السورية والإسلام السياسي، ودفع تعويضات عن الأضرار الناجمة على التدخّل الأردوغاني، والمساهمة بسخاء في عملية إعادة الاعمار.
الرئيس بشار الأسد عندما يتمسّك بالانسحاب التركي الكامل من تراب بلاده كشرط لأي لقاء مع نظيره التركي ووفق برنامج واضح المعالم، وضمانات جدية راسخة، كان مصيبا، ويضع مصالح بلاده ووحدتها الترابية فوق كل اعتبار، لأنه لا يثق بمصالحات “تبويس اللحى”، أو أي التزامات “شفوية” من الرئيس أردوغان، فالطعنة الوجودية الأكبر في التاريخ السوري جاءت من الجار والصديق والحليف التركي المسلم المفترض الذي انتهك جميع المعاهدات والتفاهمات وابرزها اتفاق اضنة عام 1998، وارسل قواته وحلفاءه لغزو سورية وتفتيتها، ولهذا حصر جميع اللقاءات مع تركيا في الملفات الأمنية، وقاوم كل الضغوط الروسية، وأخيرا الإيرانية، ورفض نقل هذه المفاوضات الى القضايا السياسية والاستراتيجية، فالسيادة السورية على كل الأراضي السورية تتقدم على كل الاعتبارات الأخرى، وبعد إنجازات الجيش العربي السوري طوال الأعوام الـ11 الماضية ليس هناك ما يمكن خسارته.
مصدر سوري كبير أكد لنا أن الرئيس بوتين ونظيره الإيراني إبراهيم رئيسي أكّدا أن الرئيس السوري عارض بقوّة الجلوس مع الرئيس أردوغان برعاية الرئيس بوتين في موسكو او منتجع سوتشي، لان الأخير، أي الرئيس اردوغان تعهد بالقبول بجميع الشروط السورية، وخاصة الانسحاب من شمال غرب سورية، على ان يتم التنفيذ بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية والتشريعية، فكان الرد السوري بسيط مباشر “اذن علينا ان ننتظر لما بعد هذه الانتخابات قبل الاتفاق على أي شي”.
لا نجادل مطلقا بأن الرئيس بوتين يملك رصيدا قويا عند الرئيس السوري وحكومته، حيث لعب دورا قويا في إحباط المؤامرة الامريكية لتفكيك البلد وإسقاط النظام في سورية، وتعرضت قواته لخسائر بشرية ومادية كبيرة في هذا الميدان، ولكنه لا يملك النفوذ او الرصيد نفسه في الجانب الآخر، أي تركيا، التي يحاول رئيسها ان يرقص على جميع الحبال، ويحافظ على جميع قنواته مفتوحة مع الاطراف كافة شرقية كانت او غربية (أمريكا)، ويتمسك بعضويته في حلف “الناتو”، ولكن ما كان يصلح قبل حرب أوكرانيا لم يعد يصلح اثناءها وربما بعدها.
جميع التصريحات الرسمية التي صدرت بعد اختتام لقاء القمة بين الرئيسين الروسي وضيفه السوري جاءت “باهتة” و”عمومية” ذات طابع دبلوماسي مكرر حتى كتابة هذه السطور أمر غير مفاجئ، ولهذا نحن بانتظار “الدخان الأبيض” من الكرملين، ودهاليزه، فعقد اللقاء الرباعي على مستوى وزراء الخارجية (روسيا، سورية، ايران، تركيا) اذا ما تحدد قد يكون مؤشرا قويا على “انفراجة” واتفاق متكامل للازمة السورية التركية يحقق جميع الشروط المطلوبة، ويمهد الطريق السريع للقاء القمة بين الأسد واردوغان، وبهذا تكون المبادرة الروسية، والصلابة السورية، والمرونة التركية قد تكللت بالنجاح، وإطلاق رصاصة الرحمة الدبلوماسية على الوجود الأمريكي في منطقة الشرق الاوسط برمتها، وبدء العصر الروسي الصيني في ربوعها.. والأيام بيننا.
عبد الباري عطوان
لندن
Comments are closed.