تستطيع السينما تعضيد الإيحاءات التي من شأنها تمجيد البطل، وتكريس الدلالات المتوافقة مع اظهار مظلوميته، وتضخيم الجزئيات على حساب المعنى الذي يقره المنطق، وإن كان كل ذلك يحصل منافياً للطبيعة وأهداف كل سلوك، بحيث يشعر المتلقي بالكم الهائل من الاضطهاد (اللامنطقي) من دون أن يسترعي الوضوح ومناقشة تفصيلاته، فتجده مأخوذاً بصور الصحراء اللامتناهية، بينما ترعى فيها الماشية، والبدوي الذي أظهره الفيلم (جلفاً) كان يعلم الهندي كيفية حلب الماعز بالإشارة من دون تجشم عناء تطبيق الفعل عملياً له، فقط لغرض ذلك التعضيد الذي ذكرته كي تتسق الرؤية بمفهوم الاضطهاد غير المبرر.
أثبت هنا ملاحظاتي على الفيلم بالإضافة الي تلك التي ذكرناها في الجزء الأول من المقال، مشهد تناطح الأغنام مع بعضها ومحاولة الهندي فك النزاع بينها حتى ينتهي الأمر بنطح الهندي مرتين من قبل الأغنام المتصارعة وسقوط الهندي مضرجاً بدمه، هذا المشهد وغيره مشابه له، القصد منه تحشيد أكبر عدد من الأسباب للتعاطف مع الهندي واظهار شخصية البدوي السعودي كـ “جلف” شرير قاسٍ لا يمت للإنسانية بأي صلة، وهذه الأفعال تتنافى مع قصدية البدوي للاستفادة من الهندي
المسافر لغرض العمل وجني المال لمعيشة أهله هناك، كذلك مشاهد الصحراء قد اختيرت بعناية فائقة لإضفاء طابع قسوة البيئة على الهندي، والاستفادة منه في مشاهد الهروب وتكريس القسوة اللامتناهية من الطبيعة وقبلها من البدوي، فضلاً عن عدم اظهار أي تفصيل يشي بوجود حياة هناك، على الأقل لعدد الحيوانات من الأبل والماعز والأغنام، وعلى ماذا تقتات تلك الحيوانات والمكان مغطى بالرمال فحسب، وليس هنالك عشب ظهر في جل المشاهد ما عدا مشهد واحد، بالمقابل ثمة مشاهد (الفلاش باگ) للبطل في قريته حيث الماء والخضراء والوجه الحسن، والمرح مع الأصحاب والسباحة في الأنهار، يستظلون بفيافي الأشجار الكثيفة ويمرحون بجنان لا نهاية لجمالها، ثم يصحو على لفح الرمال على
وجهه.
بينما بدا مشهد المطار عند وصول الهندي وحديثه المتعثر مع ضابط تأشيرات الدخول، ينم عن قصدية في تجهيل نظام الطيران في المملكة السعودية (عني شخصياً سافرت لمعظم الدول الخليجية، فضلاً عن العربية الأخرى، ولم أجد موظفاً في المطار لا يجيد التحدث باللغة الإنكليزية) وهذا أيضاً إضافة قصدية لجأ إليها الفيلم لتعظيم حجم معاناة الرجل الهندي، استوقفني طعام البدوي ورفيقه، لم أسمع (لأني لم أر) أن بدوياً كان زاده الخبز والماء! وإلا ما نفع هذا القطيع الكبير من الماشية، التي ينعمون بحليبها ويستخرجون منه ما لذ وطاب من مشتقات، هذه أيضاً صورة لتعضيد صورة القسوة التي عاناها الرجل الهندي، لفتت انتباهي مفارقات منها مشهد الهروب، إذ اهتم نجيب بارتداء ثياب نظيفة، وانتعل مداسه الجديد الذي احتفظ به طوال السنين الأربع، وحرص على أن يظهر بمظهر جميل، لكنه نسي أن يخصص من هذا الوقت دقائق لأخذ (جود) ماء يعينه في رحلة لها بداية ولا يتوقع لها نهاية، وهذا في تقديري يصب بقصدية تعظيم المعاناة من خلال لقطات العطش المميت، وفي المشاهد ذاتها يختفي الدليل الأفريقي بشكل مفاجئ وغير مفهوم، ليبقى نجيب وحيداً تائهاً تعضيداً وتكريساً لصورة المعاناة التي تعرض لها وعاناها، وهناك مشاهد جاءت عكس ما خطط لها، منها: مشهد الوافدين الهاربين من الكفلاء، أو المطلوبين للقانون، إذ بدا هذا المشهد كوميدياً على غير ما أريد له، حيث يأتي الكفيل لمركز الشرطة (هكذا بدا لي) ويتعرف على الوافد الهارب من (بطشه) وينهال عليه ضرباً من دون وجود لأي رجل شرطة من شأنه منع هذا التصرف، وفي هذا إشارة إلى أن النظام يسمح بذلك (في إحدى مشاركاتي بمهرجان دبي السينمائي دعاني قريب لي مقيم هناك على وجبة عشاء وضمن أحاديثنا قال : الوافد الأجنبي إذا ضاقت به السبل يضطر إلى السرقة وهو يعلم أنه سيقع بيد الشرطة، ضحكت وقلت (شنو هل الذكاء) قال : لأنه حين يساق إلى السجن سينعم بخدمة كبيرة من طعام لذيذ ونوم هانئ وتعامل إنساني طيب).
بشير الماجد
فنان / اكاديمي
العراق
Comments are closed.