بعد دخول الزمن الدستوري من تكليف السيد السوداني في توليف حكومته المرتقبة، تعد هي الفترة الاطول والاعسر في طوال تاريخ توليف الحكومات المتعاقبة.
استميحكم في ان نعود قليلاً الى الوراء لنطلع على تاريخ نشوء الدولة العراقية الراهنة وسياقات الدورات الانتخابية التي بدأت مع طرح الدستور العراقي من سنة ٢٠٠٥، نجد ان تسلسل الاحداث المعقّدة والتحديات الصعبة التي واجهت النظام الديمقراطي والمواطن العراقي، تأتي في سياق طبيعي ضمن تسلسل ايقاع المشكلات الدستورية التي عملت على خلق فجوة واسعة ما بين الشعب من جهة وما بين مؤسسات الدولة الحاكمة من جهة اخرى، فعلاً انها كانت تتسع تلقائيا مع مؤشر الخطوط البيانية لاخفاق أداء المؤسسات الحكومية والتي تم استثمارها من قبل الجهات الاعلامية التي تعكزت على وجود المبرر الشرعي والاخلاقي الذي يعتمد على التفاعل الطردي للعلاقة السلبية بين المجتمع وتقديم المنجز الحكومي المتقهقر لملفات على تماس مباشر بحياة المواطن. بمعنى آخر لم يطرح الاعلام نفسه كجهاز اعلامي رسالي توعوي يمارس النقد من جانب وصناعة وعي اجتماعي من جانب آخر ، بل اكتفى بنشر الغسيل والتسقيط والتشهير. حتى استطاع الى مسخ اللغة الثقافية والسياسية التي تنظمها مدونة العقد الاجتماعي والسلوكيات الديمقراطية التي تبنى على مفهوم الحوار وصندوق الاقتراع والتزاحم الايجابي في طرح الافضل والانسب للقيادة والادارة.
على اثر هذه الازمة المتواصلة والتي اعتمدت على المغذيات المضادة كضعف العدالة وسوء ادارة الدولة والتخبط الواهن في توزيع الثروات الوطنية، اذ تشكلّت عندها الجماعات المتنوعة، الناقمة، من استمرار نقص الخدمات وارتفاع نسبة الفقر وزيادة حجم الفساد، مع اعلان المطالب الجماهيرية المتعددة والتي تنقسم الى قسمين هما:
اولاً: مطالب خاصة نسبية تتعلق بنوع الجماعة الجغرافية والتركيب الديمغرافي الاثني و الطبقي.
ثانيا”: مطالب عامة واسعة تمثل الشعب العراقي والتي تحمل عنوانات أوسع واشمل من الأولى، مثل تحقيق العدالة الاجتماعية والقضاء على الفساد وانهاء المحاصصة السياسية وتعديل الدستور .
تعاملت الحكومات مع النوع الاول وفق تكتيكات مرنة في محاولة ايقاف جماح الاحتجاجات لفترة ما، الا انها سرعان ما كانت تكبر ككرة الثلج لتعود اقوى من سابقاتها.
اما القضية الثانية فكانت عبارة عن حقل الغام عجزت الحكومات في ان تتجاوزها، بسبب غياب الاستراتيجية الفاعلة التي تتجاوز اللعبة السياسية وخطورة الزمن السياسي.
يرى البعض ان مواصلة الاحتجاجات بكل انواعها، على انها تشكّل امراً طبيعياً في بلد ولِدَ من رحم السلطات الشمولية والدكتاتورية، وان فترة عشرون عاماً على نشوء نظام سياسي ديمقراطي في قبال التحديات الارهابية والانقسام السياسي والتدخل الاقليمي والدولي في الشؤون السياسية ومحاولة تغذية الانقسام الداخلي ، هو في اصله امر مقبول قياسا بتاريخ الانظمة الديمقراطية والدول المتقدمة التي احتاجت الى عقود من الزمن لفرض السيطرة وتثقيف الشعب على مبادئ حقوق الانسان والمدونة العالمية من مفهوم التسامح والعيش المشترك والسيادة واحترام القوانين.
تعد هذه احجيات استفزازية للمواطن في جانب كبير منها، لاننا نتكلم عن الاستقرار الاجتماعي الذي يبدأ من استقرار المواطن كفرد وجماعة، ومعايير هذا الاستقرار هي في توفير الحد الادنى من العيش الكريم وحفظ كرامة المواطن.
يعني هذا ان تاسيس القواعد المتينة يبدأ من توفير درجة الخدمات ونوعيتها التي توفرها الدولة ومؤسساتها، والتي تحتكر قوة القوانين وانفاذها، والسلطة والاقتصاد والدعم الدولي والشرعية الدستورية والاستحقاق الجماهيري، هذه العوامل المتنوعة تتيح لها تقديم المضمون الخالص ليستشعر المواطن بوجود دولة حقيقية تمتلك مقومات القوة وانفاذ القوانين.
نحن نتكلم عن وسائل العيش التي تتيح للمواطن التحرّك النسبي وفق علاقة طردية مع مستقبل افضل، لن ياتي الكلام في سياق توليف وزارات تختص بابتكار سلوك يتناغم مع مفهوم السعادة والاثراء المالي وعالم رقمي يخدم المواطن، أي ان السياق المنطقي للفكرة هو توفير الحد الادنى من مقومات الحياة، لذلك لا يجوز اجتراره نحو السؤال التاريخي للاحتجاجات التي حدثت في الدول المتقدمة رغم سعة العيش والموائمة الاجتماعية مع الآلة الذكية، والذي يستخدمه البعض ذريعة جيدة للمقارنة بين الحالة العراقية والحالة الغربية، على ان تواصل الاحتجاجات هي حالة طبيعية ضمن ولادة الانظمة الديمقراطية، نعم هذا صحيح الى حدٍ ما، الا ان دوامها اي المشكلات يعني بقاء ذات الاسباب التي فشل العقل السياسي في علاجها وتوفير مناخ آمن ، فضلاً عن ان الاحتجاجات التاريخية التي حدثت او تحدث في الدول المتقدمة تعود اسبابها الى السعي نحو الانتقال الاجتماعي الى طبيعة حياة جديدة تتوافق مع تقدم الوعي وتطور التكنولوجيا المتقدمة وادوات العمل. يعني هذا ان عمل المقارنة بين اخفاقات الدولة العراقية و تاريخ الدول الديمقراطية، هي مقارنة غير علمية لافتقاد منطوق الموضوع اصلاً.
كيف هو مستقبل الحكومة المرتقبة؟
نستطيع ان نتكلم عن مستقبل الحكومة وان كانت ولازالت في طور التوليف، ذلك ان النسبة الكبيرة من الوزارات قد تم التوافق عليها بطريقة المحاصصة وهي الجرّة التي كسرت على رأس مفهوم المساواة والمواطنة في ماضينا القريب.
ستواجه الحكومة اهم تحديين بارزين:
الاول: تحدي نوع الحكومة والبعد الايديولوجي للشخصيات التي تشغل الوزارات، من حيث النزاهة والكفاءة والاستقلالية.
الثاني: انجاز الخدمات وتوفير فرص العمل والوظائف الحكومية.
وهذه النقطتين هما المحرك الجوهري للمحور المركزي في اندلاع المظاهرات والاحتجاجات أو من عدهما، سواء للجمهور الصدري الذي قدم ٧٣ مقعد في مجلس النواب قربان لمشروع الاغلبية الوطنية السياسية، أو لشباب تشرين الذين شعروا بخسارة الزمن السياسي ( الزمن الذي لا يمكن ان يتكرر )، وستكون المئة يوم هي الفاصلة والحاكمة لمشهد الانتظار والترقب والاستراحة لمحارب لا يستهان به، نستعلم ملامحه من التشكيل النوعي للحكومة المقبلة.
د. طالب محمد كريم
العراق
Comments are closed.