حين تتهاوى الأكاذيب

لم يكن المشهد في لاهاي بحاجة إلى شرح، ولا إلى الكثير من التفسير، فقد جاء مسهباً واضحاً وبيّناً، في جزئياته وتفاصيله كما في عناوينه، باعتباره حمل ما يكفي من أدلة وقرائن على حجم الكذب الغربي ومسرحيات الفبركة التي بدت محمومة في سياق البحث عن ذرائع واهية

من أجل تلفيق كذبة الكيماوي، لتتطابق مع الخطاب الغربي ذاته حين حاول تجيير مجلس الأمن الدولي ومنصات الأمم المتحدة للعبث بالوقائع، وصولاً إلى التسييس الممنهج للأكاذيب.‏

في ردة فعل منظومة العدوان الثلاثي لا تبدو جملة المواقف خارج سياق ما تتداوله من أكاذيب، وفي المقارنة السياسية ما يدفع إلى الجزم بهذه الأحجيات في الرواية الغربية، التي تقدم مقاربات عبثية لم تنتهِ عند حدود المشهد السياسي، بل ألحقتها بجملة إضافية من الإنكار الممزوج بالخيبة التي اجتاحت مفردات الخطاب الغربي، خصوصاً بعد أن أتخمت التساؤلات الملحّة داخل منظومة العدوان الساحة بالكثير من الدوافع والعوامل التي كشفت الحضيض السياسي الذي وصل إليه الخطاب الغربي، والدرك الذي يحكم مخرجات هذا الخطاب.‏

فالمحاسبة التي تطالب بها روسيا لمُرتكبي الأكاذيب ومفبركي المسرحيات لم تعد مجرد موقف سياسي، ولا هي انعكاس إعلامي مجرد وصرف، بقدر ما تشكل حالة واقعية تتجاوز مساحة المشهد السياسي وتداعياته، لتصل إلى حدود المساءلة القانونية والأخلاقية، بل في بعض تجلياتها تمثل محاكمة أخلاقية لمنظومة العدوان بشقها الثلاثي المباشر والمتعدد المستويات من أدوات دعم ومرتزقة وإرهابيين أوصلتهم ذرائعهم وأكاذيبهم إلى الكشف عما تبقى منه والذي سمي اصطلاحاً بالمسكوت عنه في السياسة، باعتباره مدخلاً إلزامياً للمواجهة المفتوحة، وقد يكون ممراً قسرياً للمشهد برمته من بوابة الفهم الحقيقي للتداعيات القادمة.‏

وتتوازى معه وعلى النسق ذاته المحاولات المشكوفة لجمع التشظيات السياسية التي تتراكم على جوانب المشهد الدولي، والتي تعبر عن حجم المأزق القائم، خصوصاً عندما تكون محكومة بالاعتبارات القانونية ومفرزاتها، حيث بات من الطبيعي أن تتزاحم الأجندات الإقليمية والدولية على وقع الفشل السياسي في تسويق الأكاذيب المحكومة بالمتغيرات الميدانية التي أفضت في كثير من الأحيان إلى تجاوز المعطيات التي كانت تراهن عليها منظومة العدوان، أو في حد أدنى كانت تعوّل على بعضها لاستمرار الحرب وممارسة أشكال العربدة والعدوان الموصوف وصولاً إلى الاحتلال، حيث المقاربات لم تختلف فحسب، بل تبدو الحسابات والمعادلات وحتى قواعد الاشتباك المعمول بها في رحلة تغيير قسري لن تطول كثيراً.‏

فرعاة الإرهاب يرسمون خطوطاً متعرجة في مواقفهم وسياستهم تؤشر بشكل واضح إلى ارتباك لم يعد بمقدورهم إخفاؤه، وإلى استعصاء في خياراتهم لم يعد بالإمكان التغاضي عنه، في وقت يواجه فيه المشغلون حالة من الإفلاس، وتدفعهم خياراتهم المتاحة إلى فتح الجبهات الجانبية لتنظيم الصراعات القائمة بين المرتزقة والإرهابيين، حيث مشهد الازدراء في المواجهة المفتوحة تقتضي في الحد الأدنى تأجيل الكثير من الملفات العالقة، وما كان مستبعداً في سياق الاصطفافات بات ملزماً وخياراً يرسم تعرجات المشهد الناتج الذي يترك ندباته بوضوح على جميع المقاربات السابقة.‏

فثلاثي العدوان يبدو مهموماً بإحصاء خسائرة السياسية في محاولة يائسة لإعادة ترتيب أوراقه على وقع المتاعب التي أدركها بعد عربدته الأخيرة، خصوصاً مع مزاج أميركي متقلب يصل ذروته في المبازرة السياسية، حيث لم يكن هناك بد من الانجرار إلى المتاجرة الأميركية واللعب بأوراق المساومة على وقع هزائم لم تعد حكراً على الميدان، بل تقاربه في السياسة وتوازيه بالقدر ذاته في الإعلام والدبلوماسية، وما جرى في لاهاي قد يكون عينة أولية أو مجرد قصف تمهيدي لسلسلة متواليات لا تكتفي بدحض الرواية الغربية وكشف الأكاذيب، بل تكون المساءلة ودفع أثمان العدوان والتجني على الحقيقة، فعلاً طبيعياً يأخذ مجراه حتى النهاية.‏

علي قاسم /صحفي سوري

Comments are closed.