أمام معبر رفح وقف رجل اسمه أنطونيو غوتيريش. صفته الأمين العام للأمم المتحدة. مطالبه متواضعة. فتح المعبر لإدخال الدفعة الأولى من المساعدات. أغذية وأدوية ووقود لتخفيف معاناة المقيمين في جحيم غزة. كان يتمنى بالتأكيد أن يطالب بوقف فوري للنار. وبفتح أفق سياسي لطي صفحة الحروب في هذا النزاع الطويل والمرير. لكنه يعرف أكثر من أي شخص آخر هشاشة المنظمة الدولية في الوضع الراهن. وعجزها عن اتخاذ القرارات التي يحتمها الهدف الذي أنشئت من أجله..
كيف يستطيع مجلس الأمن إطفاء النار في غزة بعدما وقف مشلولاً أمام أهوال الحرب الروسية في أوكرانيا؟ في أوكرانيا التي يعتقد الكرملين أنها لا تستحق أن تكون دولة، وحيث يُقتَل الجنود الروس بأسلحة أميركية تضخها واشنطن في عروق الجيش الأوكراني. فشل مجلس الأمن في أن يكون صمام أمان، فالحرب تدور عملياً بين الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن رغم تفادي الغرب إرسال قوات إلى ساحة المعركة. هشاشة دولية لا تحتاج إلى دليل.
يعرف غوتيريش أيضاً هشاشة الشرق الأوسط وحروبه التي لا تنتهي. عجزت الأمم المتحدة عن فرض احترام قراراتها في النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي. عجزت أيضاً عن منع أميركا من غزو العراق. وعن إيجاد حل للتوتر الذي يثيره الخلاف حول البرنامج النووي الإيراني. ويعرف غوتيريش أن الشرق الأوسط يعيش بلا أي صمام أمان. وأنه قابل للانزلاق نحو الهاوية. وأن المنطقة مصابة بالظلم والكراهيات والجروح العميقة والمشاعر الملتهبة فضلاً عن أنها مدججة بالجيوش القلقة والميليشيات الجوالة والمسيّرات. لا يملك غوتيريش سلطة منع المنطقة من الاندفاع نحو الهاوية؛ لهذا اختار الدور الآخر للأمم المتحدة وهو تسهيل مرور الأغذية والخيام والبطانيات والضمادات.
قبل سنوات قليلة نظر بنيامين نتنياهو إلى المنطقة وعاد مرتاحاً. لبنان شبه مفكك ويقيم تحت أزمة اقتصادية طاحنة ما يجعل من الصعب على «حزب الله» إطلاق مواجهة مكلفة مع إسرائيل. سوريا موزعة على جيوش دولية وإقليمية وميليشيات ولا تبدو قادرة على الانخراط في حرب. التفاهم مع فلاديمير بوتين أتاح لإسرائيل شن حرب بالتقسيط على محاولات إيران استكمال الطوق الصاروخي حول الدولة العبرية. العراق يتابع لملمة جراحه وأزماته الداخلية تتلاحق. وفي الشق الفلسطيني الانقسام بين الضفة وغزة يتعمق. السلطة الفلسطينية محاصرة ومستنزفة و«حماس» توحي بأنها لا تستعجل الدخول في مواجهة جديدة.
في ظل هذه الصورة جاء السابع من أكتوبر (تشرين الأول). ليس هجوماً محدوداً ليستدعي رداً محدوداً ومضبوطاً. ارتدى منذ الساعات الأولى طابع الزلزال بمسرحه ومجرياته وضحاياه ورهائنه. كشف هشاشة القلعة الإسرائيلية. غفلة أجهزتها الأمنية وبطء جيشها في التعامل مع المفاجأة. وكشف أن الدولة المسلحة حتى الأسنان تحتاج إلى حضور الرئيس الأميركي شخصياً مع بوارجه لمساعدة إسرائيل على التقاط أنفاسها بعدما تم ضرب صورة الردع و«اقتلاع» عدد من المستوطنين واقتيادهم إلى غزة. لم تعد المسألة امتحاناً عادياً. عدتها المؤسسة الإسرائيلية معركة تمس الوجود نفسه وقرأ الغرب الزلزال من الزاوية نفسها.
أعطى زلزال غزة انطباعاً سريعاً أنه أكبر من غزة. تشكلت حكومة طوارئ إسرائيلية للرد على الزلزال بعقاب من قماشته وأكثر. كان الهجوم غير مسبوق فعلاً في تاريخ تبادل الضربات الفلسطينية – الإسرائيلية. الرد الإسرائيلي المدمر عليه غير مسبوق أيضاً. في موازاة الحرب المفتوحة في غزة ظهرت علامات تؤكد أن المواجهة يمكن أن تفيض عن مسرحها الحالي. تبادل مضبوط للضربات على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية. هجمات على قواعد أميركية في المنطقة. صواريخ حوثية اعترضتها البوارج الأميركية. وقصف إسرائيلي متكرر لمطاري دمشق وحلب وهو احتكاك على خط التماس الإسرائيلي – الإيراني.
واضح أن المنطقة تقف اليوم فعلاً على مفترق طرق. لا تستطيع المنطقة احتمال نزاع واسع ستكون تكاليفه البشرية والاقتصادية كارثية بغض النظر عن نتائجه. وواضح أن تعايش المنطقة مع نزاع طويل في غزة مرفق بمشاهد إنسانية مروّعة سيكون صعباً جداً هو الآخر وينذر بزعزعة الاستقرار في أكثر من مكان.
واضح أن إسرائيل ليست في الوقت الحاضر في مناخ خفض التصعيد أو الاستماع إلى دعوات وقف النار. كلام مؤسستها السياسية والعسكرية والأمنية مباشر. تريد تدفيع «حماس» ثمن الزلزال الذي أطلقته وتتحدث عن شطب «حماس» أو على الأقل توجيه ضربة قاصمة إليها.
في جولته على الحدود مع لبنان أطلق نتنياهو رسائل قاطعة وخطرة. قال إن النزاع الحالي في غزة هو «مسألة حياة أو موت» بالنسبة إلى إسرائيل و«لن نتراجع ونعمل على محو (حماس)». قال أيضاً: «إذا قرر (حزب الله) دخول الحرب فسيجلب دماراً لا يمكن تصوره عليه وعلى لبنان». يكشف كلام نتنياهو أن حكومته ليست في وارد التراجع عن خيار الاجتياح البري لغزة وبهدف محدد هو شطب «حماس» من المعادلة.
كلام نتنياهو يعبر عن قرار سيبدو مكلفاً بل باهظاً في حال تنفيذه. مكلفاً لـ«حماس» وللمدنيين وللإسرائيليين أيضاً. لكن هذا الموقف الإسرائيلي يطرح أسئلة أخرى. هل يدخل «حزب الله» الحرب إذا شعر بأن «حماس» مهددة فعلاً بضربة قاصمة؟ وهل يتخذ مثل هذا القرار رغم الوضع الكارثي في لبنان والذي ينذر بما هو أسوأ في حال انخراطه في الحرب؟ هل تنطلق الصواريخ من الجبهة السورية أيضاً وهل الجيش السوري المستنزف أصلاً قادر على مواجهة الضربات الإسرائيلية المحتملة؟ ماذا سيكون موقف إيران لو تمكنت إسرائيل من التقدم نحو شطب اللاعب السُنّي في محور الممانعة؟ وماذا عن القوات الأميركية في المنطقة في حال استهدفت أو اتسعت الحرب؟ طبعاً مع السؤال عما إذا كان اتساع الحرب سيغري نتنياهو باستهداف البرنامج النووي الإيراني نفسه.
صمامات الأمان الدولية والإقليمية غائبة. المنطقة تقيم على ضفاف الهاوية. قرارات الأيام المقبلة صعبة وباهظة وهي ستحدد ما إذا كان الوقت قد تأخر لمنع الانتقال من الضفاف إلى قاع الهاوية.
غسان شربل
الشرق الأوسط
Comments are closed.